شعار قسم مدونات

لعبة تونس.. إذا سألوك عن الفساد فاشغلهم بالمواريث

blogs - باجي قايد السبسي

عندما ينزلق الحاكم والمعارض وبقية النخبة إلى صراعٍ إيديولوجيٍ بدلاً من صراعٍ براغماتيٍ فاعلم أن الدولة في أزمة وتتجه بثبات صوب الانفجار. أثارت تصريحات الرئيس التونسي (الباجي قائد السبسي) جدلاً كبيراً، ليس في تونس فقط وإنما في كافة الدول العربية والإسلامية، بحكم أن ما أثاره الرئيس التونسي، وما يروج له بعض العلمانيين في تونس، يثير مشاعر كافة مسلمي العالم؛ إذ يطعن مباشرة في حكم من أحكام الله تعالى المتعلقة بكيفية تقسيم الميراث بين الرجل والمرأة. في هذا السياق، لا يهمنا تبرير كيفية تقسيم الله تعالى للميراث بين الرجل والمرأة؛ فإذا خضنا في هذا النقاش السطحي نكون قد ساهمنا، من حيث لا ندري، في التشكيك في حكم من أحكام الله غير القابلة للتأويل والطعن فيها؛ كون أن المسألة لا تتعلق بحكم نابع عن اجتهاد شيخ أو جماعة إسلامية. بل هو حكم الله سبحانه لا يحتاج لتبرير من قبل المسلمين وغير قابل للتأويل، هذا من جهة. ومن جهة ثانية فإن الخوض في هذا النقاش السطحي يخلق الاستقطاب والانقسامات بين أفراد المجتمع الواحد عوض أن يساهم في إيجاد الحلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة التي تتخبط فيها أغلب الشعوب العربية.

لكن ما هو جدير بالملاحظة فعلاً، هو أنه في الوقت الذي تطالب فيه الشعوب العربية، ومنها الشعب التونسي، خاصة من فئة الشباب، بمستوى معيشي أفضل يضمن لهم، على الأقل، إشباع حاجاتهم الأساسية من مسكنٍ وعملٍ وزواجٍ، تطل عليهم حكوماتهم ورؤساؤهم بخطابات وممارسات توسع دائرة الأزمات وتعمقها. وهذا ما حدث مع رئيس الجمهورية التونسية؛ إذ طلّ على شعبه، المسلم أباً عن جد، ليخطب لهم، بناءً على تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة المثير للجدل الذي تم فيه، من بين أمور أخرى، الدعوة إلى تحقيق المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة؛ بالقول: (يجب تغيير مجلة الأحوال الشخصية) – بناءً على ما جاء في التقرير. (نحن ليس لدينا علاقة بحكاية الدين أو بحكاية القرآن أو بحكاية الآيات القرآنية.. نحن نتعامل مع الدستور المتضمن لأحكام آمرة، ونحن في دولة مدنية.. والقول بأن مرجعية الدولة التونسية هي مرجعية دينية يعتبر خطأ فاحشا.. أنا أقترح أن تصبح المساواة في الإرث قانوناً) أي تقنينها. هذه التصريحات، إضافة إلى كونها تحوي الكثير من المغالطات، أثارت استقطاباً حاداً داخل تونس؛ إذ تحول الشعب التونسي ونخبه من السعي نحو بناء نظام اقتصادي يضمن الحرية والكرامة، ويقوم على أسس العدالة والمساواة إلى الدخول في نقاش إيديولوجي إسلامي-علماني لا يفيد الشعب التونسي في شيء، بل قد يفضي إلى مخرجات جد سلبية على الشعب التونسي وعلى المنطقة عامة؛ متمثلة في:

– إلهاء النخب وتشتيت جهودها عن القضية الرئيسية المتمثلة في السعي إلى محاربة الفساد وتطوير اقتصاد البلاد بالشكل الذي يُحسّن الظروف المعيشية لشريحة واسعة من الشعب التونسي خاصة في المناطق الداخلية. المفارقة الكبيرة هي أنه في أحيان كثيرة، تصبح النخب، ليس فقط في تونس بل في المنطقة العربية كلها، هي المسئولة عن تحويل النقاش البراغماتي العقلاني الهادف في البلاد إلى نقاش إيديولوجي. فمثلاً في بلدٍ مثل الجزائر المعروفة بقيم التسامح والوحدة يظهر من حين إلى آخر مفكر عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ليطعن في أحد الأحكام أو القيم الإسلامية. أو يظهر شيخ إسلامي معروف ليطعن ويكفر بقية المذاهب الدينية التي لا ينتمي إليها، فيتحولون بذلك من جزء من الحل والصلاح إلى جزء من المشكل والأزمة، والأمر عينه ينطبق على بعض القرارات والسياسات الرسمية ولدينا في مسألة حذف البسملة من مقدمة الكتب خير مثال على ذلك. إذ تحول النقاش من إصلاح التعليم إلى جدل كبير متعلق بالهوية أقحم حتى الشعب البسيط فيه، وهذا الأمر كان يمكن تفاديه؛ لأن من غير المعقول أن يكون إصلاح القطاع التعليمي متعلق بحذف البسملة من مقدمات الكتب.

على الحكومات العربية والنخب أن تدرك بأن الصراع الحقيقي الحالي ليس بين ثنائية: الإسلامي والعلماني، الشاذ والسليم، المرأة والرجل، الشيعي والسني، المسلم والمسيحي..

–  إثارة التطرف وتقويض شرعية الحكام والدولة معاً: خطابات وممارسات سياسية طاعنة في الدين الإسلامي وفي قناعات الأغلبية الساحقة من الشعب العربي المسلم، لا تزيد سوى في استفحال الحقد والغل المؤديان لتطرف بعض فئات المجتمع، خاصةً إذا ترافق ذلك مع تدهور المستوى المعيشي. ليس خافياً أن تونس، المعروفة بعلمانيتها (المتطرفة) خاصة قبل حراك 2010م، صُنّفت من قبل بعض التقارير الغربية بأنها من أكبر الدول المصدرة للمتطرفين؛ الظاهر أن علةّ ذلك هو هذا النوع من الممارسات والخطابات السياسية الطاعنة في معتقدات الشعوب. حيث كلما عمدت أنظمة الحكم إلى الطعن فيما تؤمن به شعوبها كلما ازدادت نسبة رجحان تأثر واقتناع بعض الشباب، خاصة من الطبقة المهمشة اقتصادياً، بإيديولوجيات دينية متطرفة ودموية معادية للأنظمة وللدولة في آنٍ. بالطبع، هذه المعادلة تنطبق على كافة الدول، لذا من المفترض على رئيس أي دولة عربية وحكومته أن يدرك هذه المعادلة وأن يعلم بأن لا شيء يقوّض شرعية الأنظمة والدول العربية ويثير عدم الاستقرار في المنطقة ويعطي قدرة أكبر للجماعات المتطرفة على الحشد أكثر من الممارسات والخطابات السياسية التي قد تبدو للشعوب العربية المسلمة على أنها طعن في دينها ومعتقداتها. وهذا الأمر على الحكومات والنخب أن تتجنبه قدر المستطاع.

أمّا عن المغالطات التي كانت في خطاب الرئيس التونسي، فتتمثل في النقاط التالية:

– خطاب ومشروع قانون يتعارض مع الدستور: اعتراض الرئيس التونسي على حكم الله في تقسيم الميراث بين الرجل والمرأة، وإعلانه تقديم مشروع يساوي بين الجنسين في الميراث يعتبر خطوة طاعنة في الدستور. لأن الدستور في فصله السادس ينص صراحة على أن الدولة راعية للدين وكافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر..؛ فكيف تكون الدولة كذلك ورئيس الجمهورية، حامي الدستور، يحاول طرح مشروع يقيد حرية المسلمين ويفرض عليهم تقسيم الميراث بين الرجل والمرأة بالتساوي رغما عنهم!
– القول بأن لا علاقة للرئيس وحكومته بالإسلام هو بمثابة طعن في الدستور؛ لأن الدستور في الفصل الأول ينص أن تونس دينها الإسلام. وهذا حكم كاف على الأقل ليجعل الرئيس يمتنع عن التصريح رسمياً بأن ليس له علاقة بالدين.
– ربط مدنية الدولة بعدم خضوعها للشريعة يعتبر مغالطة؛ لأن الدولة المدنية هو أن تكون دولة ديمقراطية تحقق العدالة، تضمن الحريات لكافة المواطنين، ويستمد فيها الحاكم شرعيته من الشعب فقط. والشريعة بمختلف تأويلاتها لا تعترض مع ذلك.
– الحرية التي يسعى إليها الشباب العربي بصفة عامة، والتي على أي دولة أن تسعى لتحقيقها هي تلك التي تخرج الشباب من سجون الفقر إلى حياة الحرية الحقيقية التي يتمكن فيها الشاب من إشباع أبسط حاجاته الأساسية: غذاء، ومسكن، وعمل. 

الفكرة الأساسية المراد إيصالها مما سبق، هو أن على الحكومات العربية والنخب أن تدرك بأن الصراع الحقيقي الحالي ليس بين ثنائية: الإسلامي والعلماني، الشاذ والسليم، المرأة والرجل، الشيعي والسني، المسلم والمسيحي، الشرقي والغربي، العربي والأمازيغي.. كل هذه الثنائيات الإيديولوجية وغيرها هي مفتعلة، تعبر عن سراب طاغ على القضية الأساس المتمثلة في الأسئلة التالية: (داخلياً): كيف نحارب الفساد، ما هي الصيغة السياسية الاقتصادية الأنجح للحد من الفساد؟ كيف نُمكّن المحكومين من محاسبة الحكام؟ كيف نحسن المستوى التعليمي؟ ما هي السياسات الضرورية لبناء هوية وطنية مشتركة قائمة على احترام حرية بعضنا البعض في كافة المجالات؟ هل يجب الاعتماد على سياسة التمييز الايجابي في ظل الفوارق الاقتصادية والتنوع في الهويات أم لا؟ أما (خارجياً): كيف نحقق أكبر قدر من الاستقلالية عن الدول الكبرى؟ كيف يمكن لنا أن نستفيد من صراع القوى الكبرى دون أن نصبح ميداناً لحروبها؟ كيف نجذب الاستثمار الأجنبي لبلداننا؟ ما هي الاستراتيجية المناسبة التي ينبغي أن نعمل بناءً عليها من أجل المطالبة بنظام دولي أكثر عدلاً، اقتصادياً وسياسياً؟ إذا بدأ الحكام ومختلف فواعل المجتمع بطرح هذا النوع من الأسئلة العلمية تكون الدولة ومجتمعها في طريقهما للخروج من أزمتهما المزمنة، أما أن يبقى حكامنا ونخبنا تنبش في معتقدات الناس وفي تاريخها العميق فإن ذلك بمثابة قرع لطبول الحروب الأهلية والانقسامات والتشتت. بالطبع، تبقى دولة مثل تونس بديمقراطيتها ووعي نخبها وشعوبها من بين أكثر الدول العربية المحّصنة من الأزمات الخطيرة التي قد تنتج عن الصراعات الإيديولوجية والعقائدية، لكن مع ذلك لا ينبغي الاستهانة بأمر الاستهزاء بمعتقدات الشعوب سواء في تونس أو في باقي الدول العربية؛ فقد ينجر عن ذلك تراكماً للغل والحقد لا يساهم إلا في إنتاج الأزمات بالغة الخطورة عن المجتمع والدولة على حد سواء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.