يشهد السودان ظروفاً اقتصادية صعبة، واستثنائية، خاصة بعد حزمة الإجراءات الاقتصادية التي قامت بها الحكومة في ديسمبر 2017، والتي أدّت بدورها إلى مجموعة من المشكلات، والعقبات الاقتصادية، أهمها بلا شك انهيار العملة المحلية بصورة غير مسبوقة، حيث شهد الجنيه السوداني انخفاضاً مخيفاً وصل في بعض الأوقات إلى 47 جنيها مقابل الدولار الواحد. وكذلك ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات مجنونة، في وقت عجزت فيه الدولة عن تحقيق معدلات نمو، تعيد الأمل بتعافي الاقتصاد السوداني الذي وصل إلى مرحلة الانهيار.
وقد ساعدت سياسات الحكومة غير المدروسة، بكل تأكيد، وهي سياسات تقوم على رزق اليوم باليوم، ساهمت هذه السياسات الرعناء في وصول البلاد إلى هذه المرحلة الحرجة، وهي تشابه إلى حد بعيد المرحلة التي انتزعت فيها حكومة الإنقاذ الوطني -نفسها- السلطة السياسية، عبر انقلابها العسكري المشهور في الثلاثين من يونيو عام 1989م. واليوم يعيد التاريخ نفسه، وتعيد البقرة العشب إلى الحظيرة، فما يشهده السودان من تدهور سياسي، اقتصادي، واجتماعي، أمر لا يمكن الفكاك منه بسهولة، ويرى مراقبون أن تعافي الاقتصاد السوداني من السرطان الذي ألمّ به بات أمر مستحيلا، ببساطة لأن المرض وصل إلى مراحل متأخرة، تلك المرحلة التي لا يستجيب معها للعلاج.
وفي سياق العلاج، والمعالجات، بالأمس القريب أصدر الرئيس السوداني عمر البشير، قرارات -وُصفت بالمهمة- بحل حكومة الوفاق الوطني، وتقليص الجهاز التنفيذي على كافة الأصعدة، ويشمل هذا القرار تقليص عدد الوزارات الاتحادية من 31 وزارة إلى 21 وزارة. هذه القرارات ينظُر إليها أتباع النظام الحاكم على أنّها تمثل علاجاً فعالاً للأزمة الاقتصادية، والسياسية. وبصيغة المبالغة ينظر إليها البعض على أنها وصفة سحرية لانتشال البلاد من قاع الضيق والإحباط إلى فضاءات الانتعاش والنمو الاقتصاديين.
المعالجات الداخلية-حسب رأيي- لن تُنتعش الاقتصاد السوداني، ولن تساعد على التخفيف من الاحتقان السياسي، بالإضافة إلى أنها لن تساهم ولو بنسبة ضئيلة في زيادة معدلات النمو، وانخفاض أسعار السلع |
والمتابع لمجريات الأحداث في السودان يلاحظ أن كلّ القرارات التي اتخذتها الحكومة بشأن الإصلاحات الاقتصادية أو السياسية منذ اندلاع الثورة الشعبية في سبتمبر 2013م لم تصب يوماً في مصلحة المواطن، فكل القرارات دونما استثناء كانت تزيد الحياة تعقيدا أكثر من ذي قبل، تزيد الفقراء فقرا فوق فقرهم، والمناضلين اعتقالاً فوق اعتقالهم. ففي كل حزمة قرارات تتخذها الدولة، بغرض تحسين الأوضاع الاقتصادية، والسياسية، كان المواطن السوداني هو الضحية. الضحية الذي يعاني عنف القرارات، وقسوتها. بداية بزيادة أسعار الوقود وليس انتهاء بزيادة سعر الخبز، وإنما الارتفاع الجنوني في أسعار كل المواد الغذائية، والكهرباء، والمواصلات العامة، والأدوية، والتعليم، وغيرها.
والسؤال الذي أطرحه هنا، هل بإمكان هذه المعالجات أن تحدث تأثيراً إيجابياً في مسار الأزمة الاقتصادية؟ والاحتقان السياسي الذي يعيشه السودان؟ بمعنى آخر، هل القرارات التي أصدرها الرئيس البشير بتخفيض الانفاق الحكومي، وإلغاء بعض الوزارات ودمجها مع وزارات أخرى، هل سيكون لهذه القرارات تأثيراً على أرض الواقع؟ هل ستساعد هذه القرارات على إعادة الأمل المفقود للشعب السوداني؟
بداية إن القول بأهمية هذه القرارات، ومقدرتها على التأثير ولو بقدرٍ طفيف على حالة اليأس والإحباط التي يعيشهما الشعب السوداني، هو كذب بيّن، وافتراء لا حدود له، ويُعبّر -في رأيي الشخصي- عن حالة انفصام حاد تجاه كلّ من يتبنّى هذا الموقف، فماذا سيستفيد المواطن العادي من إعادة التدوير، وإحلال وإبدال الوزراء والشخصيات النافذة في الحكومة؟ ماذا سيجني السودانيين من دمج الوزارات مع بعضها البعض؟ ماذا سنجني من وراء هذه العملية المكررة، والمملة، والمكشوفة، والتي يستخدمها النظام كمخدّر موضعي مع كلّ أزمة اقتصادية طاحنة، لإسكات كلّ من يظن أن النظام لا يقوم بالإصلاحات، ولإيهام الناس باقتراب الفرج، ووصول قوارب النجاة لإنقاذ الاقتصاد السوداني من غرقه المحتّم.
والشيء الواضح للعيان وضوح الشمس، ولا يمكن الخداع فيه مجدداً إن هذه المعالجات الداخلية-حسب رأيي- لن تُنتعش الاقتصاد السوداني، ولن تساعد على التخفيف من الاحتقان السياسي، بالإضافة إلى أنها لن تساهم ولو بنسبة ضئيلة في زيادة معدلات النمو، وانخفاض أسعار السلع الأساسية مثل الخبز، والسكر، والزيوت. كما أنها لن تعمل على ارتفاع سعر الصرف، والأكثر من ذلك فإن تكليف وزير الكهرباء والموارد المائية السابق معتز موسى بتشكيل حكومة جديدة لن يأتي بجديد بخصوص الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد. ما أرمي إليه هو كالتالي: إن هذه المعالجات هي كالإصلاح الإسمي، أو ربما ترضيّات سياسية من قبل البشير، لكنها لا تحمل في طيّاتها أي إشارات إيجابية، أو أي أمل للتخفيف من حدة اليأس والإحباط التي يعيشها الشعب السوداني كما يدّعي النظام.
بدون أدنى شك، إن مثل هذه القرارات الروتينية التي يصدرها الرئيس البشير بين الحين والآخر، خاصة حينما يضيق الخناق عليه، لا يمكن النظر إليها على أنها بارقة أمل، أو بارجة انقاذ، لأن ما حدث في الماضي من إصلاحات سياسية شملت إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ومن ثم القبض عليه فيما بعد وارجاعهم للسجن، وكذلك حكومة الوفاق الوطني التي تمت الإطاحة بها، وغيرها من الأحداث تمثل مرجعا مهما لكيفية إدارة النظام الحاكم للبلاد. ما أعنيه هنا، أن نظام المؤتمر الوطني ممثلا في رئيسه البشير حينما فشل بالخروج من الاقتصاد السوداني من الهاوية، قرر اللجوء إلى هذه مثلا هذه القرارات، ولسان حاله يقول: دعونا نفعل شيئاً.
وفي أحسن الأحوال، وهي أحوال خاصة بالنظام الحاكم وحده، ولا ناقة للشعب السوداني فيها ولا بعير، تمثل هذه القرارات -في رأيي- طوق نجاة للحفاظ على النظام من التآكل الداخلي، والإبقاء عليه لأطول فترة ممكنة، بعيداً عن الانقسامات، والأخبار المسرّبة بشأن قلّة الولاء، والمعارضات الداخلية لحزب المؤتمر الوطني، ومن أجل تقسيم الكعكة على الجميع أيضاً. وفي هذه الحالة أحس الرئيس البشير بأن شجرته تحمل ثماراً ناضجة، وحان أوان قطافها، فكما ما يفعله "الجنايني" مع الثمار، يفعل الرئيس بشير مع زمرته، والفارق البسيط بينهما أن الجنايني بمجرد قطفه للثمرة تنتهي مهمته، ولا يقدر على وضع ثمرة أخرى مكانها، لكن الرئيس بشير يستطيع لأنه يملك اليد السحرية، ولأنه يملك السلطة المطلقة للإطاحة بمن يشاء، ووضع ثمرة أخرى قُطفت من قبل في مكان من يشاء، في شجرته المتهالكة الجزور، وهكذا دواليك. ومن هنا فإن الأمر برمته، وما يحمله من قرارات، وإصلاحات تُرى بأنها عامة، لكنها في الحقيقة خاصة بالحزب فقط ولا تحمل أي بشريات بانتعاش اقتصادي، أو إصلاح سياسي.
ختاما إن القرارات الأخيرة للرئيس البشير، والتي شملت تخفيض الانفاق الحكومي، وتقليص عدد الوزارات الاتحادية، وعمليات احلال وابدال لا تثمن ولا تغني من جوع، تشبه إلى حد بعيد فكرة أن يكون لديك منزل كبير، به صالة وغرفة مؤثثتان بأثاث قديم ومهترئ، الغرفة هنا تمّثل الحكومة، والصالة تمثل الاصلاحات الاقتصادية، والسياسية/الشعب. لنفترض أن الصالة تحتاج إلى ترتيب وتنظيف. ولكنك لسبب ما، تهتم بالغرفة فقط، تنظفها وترتبها، بأثاثها القديم نفسه، تحرّك المنضدة وتضعها قُرب النافذة، تسحب السرير إلى منتصف الغرفة، تضع الكرسي قُرب الباب، فتبدو الغرفة أفضل من ذي قبل، ولكنك حينما تخرج من الغرفة إلى الصالة تسأل نفسك بغباء: لقد رتبت ونظفت غرفتي، لماذا ظلت الصالة بغير ترتيب؟ تقول نظرية الشجرة: أعطني وزيراً، أعطيك إصلاحا اقتصاديا، وسياسياً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.