دون أن أكون على يقين كاف، أعتقد أنه ليس هناك مجتمع لا توجد فيه إيديولوجيات يتم غرسها ومجموعة من الخطابات يتم سردها وكذا شعارات يتم ترديدها وحفظها. ابتدأ كل شيء عندما شاهدت رقعة الشطرنج موضوعة بعناية في ركن من أركان المقهى، منطقة مرتبة ومزينة بفنية ولها إنارة خاصة، ركن مقدس خاص برواد هذه الرياضة، فغمرتني تلك الدوافع التي تجعل التعاون الاجتماعي بين الأشخاص ممكنا، هذا التعاون الذي يؤدي إلى وحدة الجماعة والمبني على أساس التضحية وتتضح هذه الظاهرة جليا في النحل والنمل. ثم سبحت بي ذاكرتي، لأجد نفسي منغمسا في مشاهدة شوط من أشواط الشطرنج بين الجول باكوغاري كاسباروف ومنافسه كاربوف، نظرات كاسحة، تفكير عميق وحركات ناعمة.
لأغوص بعدها نحو أعماق النوستالجيا حيث بداياتي مع إيديولوجيا الشطرنج. الدخان المتناثر من غليون جدي وقهقهات أبي.. بمجرد توجه جدي نحو المكتبة وحمله للصندوق الخاص بلعبة الشطرنج إلا وتجدني ضاربا كل أحلامي المبنية بلعبة "الليغو" عرض الحائط جالسا القرفصاء لمشاهدة أطوار لعبة استهوتني وجذبتني كرسائل الغرام وحكايات ألف ليلة وليلة. ركن جميل يدفعك للاسترخاء والتأمل، طاولة رخامية، كراسي طراز عثماني ومكتبة خشبية كلاسيكية تتماشى مع ديكور المنزل.
أتذكر جيدا جدي وهو يضع الرقعة وسط الطاولة، ويأخذ بيدقين من لونين مختلفين يحركهما جيدا في يديه ثم يضع واحدا في يده اليمنى والآخر في يده اليسرى ويطلب من أبي الاختيار، ليتحدد بادئ الحرب. حقا لعبة تجسد للواقع، كان جدي مصيبا في اختيار كلمة الحرب رغم كونها حرب ذهنية خالية من إراقة الدماء. حرب الكل ينظر لها من منظوره الخاص، لها رمزيتها السياسية وتختلف محدداتها الجغرافية، الصناعية، النفسية وكذا الفكرية، وكما قال أنيس منصور، "في الشطرنج كما في الموت بعد نهاية اللعب يوضع الملك والعسكري في صندوق واحد". كل حرب بين أبي وجدي كانت تزيدني خبرة وتجربة وتكشف أدوارا ومهام جديدة للرقعة والقطع، حتى تشكلت لدي منظومة بأكملها:
كرة أرضية وساحة للمعركة، مجتمع متوازن ومتساوي كل الدول فيها متساوية ولها نفس الموارد الطبيعية والسياسية والسياحية وكدا الاقتصادية ولا تدخل للثقافة أو الطبيعة فيها وأسماؤها محددة بإحداثيات مضبوطة ،عندما تتحدث فإنك تتحدث عن الرقعة بأكملها ليس عن مربع واحد بها وعن تطور حضارته وعراقته وتاريخه وسياسته لوحده.
في الشطرنج نرى أنفسنا ولكن في صورة مختلفة يختفي من خلالها كل طيش وتعثر مع إلغاء جل أوجه العداوة والتعصب العرقي أو القبلي أو المذهبي، لتعم في الروح الإنسانية السكينة والفضيلة |
أهم عناصر الدولة والحلقة الأضعف على صعيد الكرة الأرضية إنها الشعب المستهلك التابع ذو الحركة المحدودة الذي لا يستطيع أن يرجع إلى الخلف أو ينظر إلى المستقبل.
وزارة الدفاع أو وزارة الحرب، تبقى الامكانيات متفاوتة حسب طبيعة الدولة وكلما كانت وزارة الدفاع قوية كلما زادت فرص الفوز والسطو والتجبر، فلا يمكن أن نقارن دولة تعطي لأحصنتها علفا مكونا من الكيماوي والنووي وتحارب بترسانة من الأحصنة الجوية والبرية والبحرية… مع دولة لم توفر حتى الغداء لبيادقها فما بالك بتعليف أحصنتها كل ما تتوفر عليه هو علف الحجارة والدعاء.
يعتبر السياسة والدستور الذي يتحرك في جميع الاتجاهات وله أوجه عديدة، يتجه باتجاه قطري يلبس لباس الرأسمالية ويرجع بلباس الاشتراكية وقد يكون يمينيا ويصبح يساريا والعكس صحيح، يتحدث بلغة الخشب ويدفع البيادق إلى التضحية ويطالبهم بالصبر والتضامن والتبعية.
الهياكل والمنظمات اللازمة لتفعيل وتحريك عجلة المجتمع، مجموع المرافق والخدمات لكي يعمل الاقتصاد فكلما كانت البنيات التحتية للدولة متوفرة ومتطورة من مستشفيات وفنادق طرق ومواصلات ومطارات جسور، سدود مصانع منشآت عسكرية… كلما كان الهيكل الكلي للدولة في تطور وتنمية ويلبي متطلبات الحياة اليومية.
تتميز بالحرية التامة ولها حصانة خاصة وامتيازات لا حصر لها وتتحكم بشكل كبير في الرقعة، تمارس سيادتها وتخلط الأوراق كيفما تشاء تقرر الصفقات تسن القوانين وتتحكم في النظام السياسي وهي المحرك والبنك المركزي للدولة.
القطعة الأهم في الرقعة هو الكيان الشامل وله الوصاية على جميع المؤسسات وكل أعضاء المجتمع باعتبارهم مواطنين، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ويعتبر بمثابة الجوكر بأوراق اللعب فهو كيان دائم تتعاقب عليه الحكومات ويستمر في التوسع والاستقرار مع بعض التعديلات يعتبر نظام محايد سياسيا تحصينا له من التقلبات المناخية والايديولوجية للحكومات وبأسره تنتهي اللعبة وتنهار الدولة.
في الشطرنج نرى أنفسنا ولكن في صورة مختلفة يختفي من خلالها كل طيش وتعثر مع إلغاء جل أوجه العداوة والتعصب العرقي أو القبلي أو المذهبي، لتعم في الروح الإنسانية السكينة والفضيلة وتختفي أيديولوجياتنا فنتحرر من ضيق أنفسنا ويلتقي الدافع الداخلي والخارجي في وعي موحد لتتشكل الحقيقة، وهنا تكمن ايديولوجيا الشطرنج. عند سماعي كلمة "كش مات". إلا وتأرجحت كلمات جدي تباعا: "الحرب سجال يا ولدي وفي الحرب معاركُ ضارية، فيها كروفر، إقبال وإدبار.. الرقعة طاحونة هوائية وفي يوم من الأيام ستقف عندك وستفعل بك ما فعلته بغيرك وستفعل بغيرك ما فعلته بك".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.