شعار قسم مدونات

الشخصية الانطوائية.. هل يحتاج أصحابها لعلاج نفسي؟!

blogs وحدة عزلة

المجتمع اليوم يفرق بين الشخص الاجتماعي والشخص المعقد والخجول، بينما لا يقبل علم النفس هذه التسميات، فيقال إن هنالك شخصية انطوائية وشخصية متفتحة أو انبساطية، وكلاهما سمتان غير متناقضتان، بل يعتبر الشخصية الانطوائية شخصية عادية يشكل أصحابها 30 في المائة من مجموع الناس، ولا تحتاج إلى علاج نفسي. في محاولة للمقارنة بين الشخصيتين يمكننا أن نعتبر الشخص الانطوائي شخصا استبطانيا وهادئا يفضل العيش في معزل عن الناس أو يكتفي بعدد قليل من الأصدقاء، بينما الانبساطي هو شخص أكثر حماسة، يملك قدرة عالية على الاندماج والانصهار داخل الجماعات ويسعى وراء الإثارة والمرح والأجواء الصاخبة.

لكن المجتمع لا يزال يحط من قيمة الشخص الانطوائي ويطلق عليه ألقابا تجرده أحيانا من قيمته وقدراته العقلية والاجتماعية، ويعتبرونه تارة إنسانا خجولا ومعقدا وتارة أخرى إنسانا مريضا ومختلا، ما جعل الانبساطيين يشعرون كالنساء في عالم الرجال، يعانون من الإهمال، حسب تعبير سوزان كين مؤلفة كتاب الهدوء: (قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام)، على الرغم من أن دراسات علم النفس أكدت أن هؤلاء أشخاص عاديون وأن صفة الانطوائية لا تجعل منهم أشخاصا خجولين، كما أن علم النفس أظهر أيضا أن معظم الناس يظهرون درجات مختلفة من الانبساط والانطواء، بحيث يكوِّنون مزيجا من الصفتين، ويمكن أن نطلق عليها الشخصية شبه الانطوائية.

 

إلا أنه وحسب عالم النفس السويسري كارل يونغ فإن كل شخص لديه جانب انطوائي وجانب آخر انبساطي، إلا أنه دائما ما يغلب جانب ما على الجانب الآخر، واعتبر أن الشخص الانطوائي هو شخص يركز على نشاطه الداخلي بينما يركز الانبساطي على الأشياء الخارجية والمثيرة وعلى العالم من حوله، وهذا ما جعل من الشخصية الانطوائية شخصية غير قابلة نسبيا للاندماج داخل المجتمع الذي لا يقبل إلا الجريئين أصحاب القدرة على الكلام والتأثير والإقناع، فالجرأة تعني السلطة والقيادة وتعني الحياة، حيث إن البقاء للأقوى دائما.

هل فعلا الإنسان الانطوائي لا يمكنه اعتلاء مراتب النجاح الأولى ومنصات القيادة والسلطة والتأثير؟
من الأشياء التي تميز الشخصية الانطوائية عن غيرها، أنها شخصية تجيد المراقبة بشكل يجعلها قادرة على إجادة قراءة لغة الجسد والعيون والهندام أيضا، فهي شخصية تحلل بدقة ملامح الناس

كما سبق وأن ذكرنا، فإن الشخصية الانطوائية ليست خجولة لكنها شخصية أقل صراحة من الآخرين وأقل تحفظا منهم، تعيش داخل عوالم خاصة بها، تجد سعادتها بأن تكون بمفردها وأن تمارس هوايات تجعلها أقرب من عوالمها الداخلية، كالقراءة والكتابة ومشاهدة الأفلام وغيرها من الأنشطة التي لا تحتاج إلى رفقة، حيث أنها تشعر بالسعادة في الوقت الذي تقضيه بمفردها وفي معزل عن الناس، إلا أن هذا لا يمنعها من التفاعل بشكل جيد مع أصدقاء مقربين لها، أولئك الذين تختارهم بعناية فائقة حيث أن دائرة معارفها تكون ضيقة لاهتمامها أو لإيمانها بأن الصداقة تقاس بقوتها وليس بعددها، كما أن علاقاتها بالأصدقاء تكون مبنية على أشياء متينة وعميقة، عكس صداقات الشخصية الانبساطية التي تهتم بالمتعة فقط.

من الأشياء التي تميز الشخصية الانطوائية عن غيرها، أنها شخصية تجيد المراقبة بشكل يجعلها قادرة على إجادة قراءة لغة الجسد والعيون والهندام أيضا، فهي شخصية تحلل بدقة ملامح الناس وتفاصيلها الدقيقة وحركاتهم، وتلجأ أحيانا إلى المقارنة بين ما يقوله الناس وبين ما قيل في وقت سابق، ما يجعلها تكوِّن فكرة عنهم لتحدد فيما بعد طريقة التعامل معهم.

الشخصية الانطوائية هي شخصية تختار الصمت لكي تتحدث في الوقت المناسب أو لا تتحدث أبدا، فتختار عدم المشاركة في الاجتماعات والنقاشات إلا بعد أن تدرس الفكرة المراد مناقشتها وتحليل جميع جوانبها من جميع الزوايا الممكنة وامتلاك جميع المعلومات والمعطيات اللازمة والمقارنة بين الرأي والرأي الآخر إيمانا منها بأن كثرة الكلام أو التحدث بطلاقة لا علاقة له بالأفكار الجيدة، إذا هي شخصية ذات آذان مصغية تلتقط كل شيء من حولها لتسجله في مكان ما في الذاكرة لإعادة تحليله والتفكير فيه فيما بعد.

هي شخصية تجد في الصمت صخبا وفي الصخب تعيش الصمت والسكينة، لها طقوس مختلفة في كل شيء، وهذا ما جعل أغلب أصحاب هؤلاء الشخصية هم كتاب وروائيون أو فلاسفة وفنانون، ومنه نستنتج أن الانطوائية لا تعني الفشل الاجتماعي والمهني. لذلك فإنه من الخطأ بل من غير العدل أيضا اعتبار الشخصية الانطوائية شخصية مريضة وخجولة وغير قادرة على اتخاذ القرارات وبالتالي تستحق النفي من المجتمع، لمجرد أنها فضلت الأنشطة الفردية على الأنشطة الاجتماعية.

الشخصية الانطوائية لا تحتاج إلى متابعة نفسية ومساعدة على التغلب على مخاوف مزعومة، هي فقط لديها طريقة خاصة في التفاعل مع الآخرين
الشخصية الانطوائية لا تحتاج إلى متابعة نفسية ومساعدة على التغلب على مخاوف مزعومة، هي فقط لديها طريقة خاصة في التفاعل مع الآخرين
 

إن الميل إلى العزلة والجلوس بمفردها واعتذاراتها المتكررة عن حضور المناسبات أو إلقاء الخطابات لا علاقة له بالخجل أو الخوف والرهاب، كما أن علماء النفس اعتبروا أن الارتباك الملاحظ في الشخص الانطوائي عندما يعتلي منصة ما ليقدم كلمة أمام الجمهور، ليس دليلا على الخجل أو الرهبة وانعدام الثقة بالنفس، بل اعتبروه ميزة تميز الشخص عن الآخرين، حيث إنه لحظة الارتباك تلك هي محاولة منه للتكيف مع الإشارات كما أنه وفي نفس اللحظة التي يتحدث فيها يكون قادرا على أن يميز بين من هم يصغون إليه بشكل جيد وبين من لا يظهرون اهتماما لما يقول.

كما أن هدوء الشخصية الانطوائية وصمتها لا يعني أنها شخصية لا تفكر أو أنها تفتقد لحس الدعابة والمرح، بل هي شخصية تفكر جيدا وتخزن الأفكار والنكات المضحكة أيضا إلا أنها اختارت عدم البوح بها، فبداخل عقل هذه الشخصية هناك حوار قائم يساعدها على التفكير والتخطيط وتقييم الأمور والأشخاص وسلوكاتهم قبل المرور إلى مرحلة البوح.

أما فيما يخص اتخاذ القرارات فقد اكتشف الباحثون زيادة في حجم المادة الرمادية في القشرة قبل الجبهية والمرتبطة بالفكر المجرد واتخاذ القرار في دماغ الانطوائيين بالمقارنة مع الانبساطيين وقد يكون هذا هو سبب ميل الشخصية الانطوائية للجلوس في الزوايا والتفكير جيدا قبل اتخاذ وصنع القرار عكس الشخصية الانبساطية المجازفة أو المتسرعة. في النهاية، إن الشخصية الانطوائية لا تحتاج إلى متابعة نفسية ومساعدة على التغلب على مخاوف مزعومة، هي فقط لديها طريقة خاصة في التفاعل مع الآخرين، وإذا ما اعتبرنا هذه الطريقة مريبة لا يمكننا إلا أن نعتبر طريقة الانبساطيين أكثر ريبة وغرابة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.