ولما كانت ظاهرة قطع العلاقات الدبلوماسية قد استجمعت ملامحها النظرية والعملية بشكل يجعلها نظاماً قانونياً متميزاً تحظى به في الحياة الدولية من تطبيقات متواترة وآثار خطيرة على مجمل العلاقات بين الدول التي يحدث بينها القطع، فقد يكون من الضروري والمرغوب فيه لو تصدت لجنة القانون الدولي لهذا الموضوع بالمعالجة، وذلك بأن تقتطعه من قانون العلاقات الدبلوماسية وخصوصا من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، والتي لم تنص على هذا الموضوع إلا في المادة (45) منها وبشكل لا يمكن أن يعد كافياً بأية حال.
وذلك بهدف إعداد مشروع خاص بدراسته تمهيداً لعرضه على الدول في صورة مشاريع تدوينية على غرار ما فعلته اللجنة بصدد موضوعي شرط الدولة الأكثر رعاية والتحفظات على المعاهدات، اللذان اقتطعتهما اللجنة من قانون المعاهدات وانتهت من إعداد مشاريع المواد بالنسبة للأول، فيما تواصل عملها لهذا الغرض بالنسبة للموضوع الثاني؛ أو على غرار موضوع "مركز حامل الحقيبة الدبلوماسية ومركز الحقيبة الدبلوماسية التي لا يرافقها حامل" والذي اقتطعته اللجنة من قانون العلاقات الدبلوماسية ذاته وانتهت من إعداد مشاريع المواد بصدده عام 1989.
لذلك، وبما أن اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية العام 1961، لم تتطرق، لا من قريب ولا من بعيد، إلى معالجة حال قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول، فلا بد من الإشارة إلى بعض المقترحات والتوصيات التي من شأنها أن تجنب الدول أمر اللجوء إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، وفي هذا الصدد يمكن اعتماد الوسائل التالية في حل خلافاتها.
من شأن تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية، وإبرام اتفاقيات التعاون ودعمها في كل المجالات، أن تدفع الدول، في بعض الأحيان، إلى تجنّب قطع العلاقات الدبلوماسية فيما بينها |
1- على الدول، بدلاً من أن تلجأ إلى استصدار قرار بقطع علاقاتها بالدول الأخرى، أن تقوم بإرسال برقية دبلوماسية إلى الدول المعنية التي اخترقت اتفاقية ثنائية أو جماعية أو ارتكبت مخالفة لقاعدة من قواعد القانون الدولي في معاملة الدبلوماسيين، أو أساء بعض دبلوماسييها إلى الدولة المعتمدين لديها.. الخ. وتعد هذه الوسيلة أكثر سلمية وودية إذا التزمت بها الدولة بحدود اللباقة الدبلوماسية، وقامت بإرسال هذه البرقية إلى الدولة تعبر فيها عن استيائها من تصرف ما. وبذلك تتجنب الدولة أول خطوة يمكن أن تقوم بها لتعبّر عن استيائها من دول أخرى، وهي «الاحتجاج العلني» الذي قد يزيد من تعقيد الأمور وتأزيمها. فاللجوء إلى الاحتجاج يعني تفاقم الصراع، فإذا كانت الدولة تملك كل الوسائل للتعبير عن احتجاجها، فلماذا لا تتخذ أبسطها لتعبر به عن موقفها وتحافظ على علاقاتها ومصالحها مع الدولة الأخرى.
2- إن احتجاج المنظمات الدولية على تصرف أحد أعضائها قد ينتج منه، غالبية الأحيان، قرار جماعي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع هذا العضو. فبدلاً من ذلك، يمكن أن تُنزل بالعضو عقوبات أقل شدة من قطع العلاقات الدبلوماسية، لأن أهداف هذه المنظمات هي توحيد جهود الدول في التعاون والبناء، وهذا ما يتعارض مع قطع العلاقات الدبلوماسية. ولذا فإن استخدام المنظمات لعقوبات الفصل من العضوية لمدة معينة، أو فرض غرامة مالية، هو أفضل من القطع.
3- إن من شأن تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية، وإبرام اتفاقيات التعاون ودعمها في كل المجالات، أن تدفع الدول، في بعض الأحيان، إلى تجنّب قطع العلاقات الدبلوماسية فيما بينها.
4- إن من شأن اللجوء إلى الدبلوماسية الوقائية، وهي النظرية القائمة على فلسفة (الوقاية من النزاعات الدولية قبل حدوثها)، عبر البحث في أسبابها قبل نشوئها، ووضع الحلول النهاية لها، أن تكفل عدم ظهورها مستقبلاً من خلال آلياتها التي تعمل على تعميق أواصر حسن العلاقات بين الدول المتنازعة، عبر نشر التعاون ومضاعفة الجهود المبذولة تحقيقاً للتنمية. فالدبلوماسية الوقائية هي طريقة فريدة من نوعها لحل النزاعات الدولية والقضاء عليها قبل اندلاعها وتفاقمها. ويجب أن يضطلع على هذه المهمة الأمين العام للأمم المتحدة، أو كبار موظفيه، أو أن تقوم بها وكالات الأمم المتحدة المتخصصة وبرامجها المتنوعة. بل بإمكان مجلس الأمن أو الجمعيات العامة أو المنظمات الإقليمية، بالتعاون مع الأمم المتحدة، أن تعمل على الحؤول دون ذهاب الدول باتجاه قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى.
وبذلك يمكن، عبر الدبلوماسية الوقائية تحقيق الأمور التالية:
أ- اكتشاف النزاعات في وقت مبكر ومحاولة إزالة الخطر الذي ينتج منها.
ب- حل القضايا التي تؤدي إلى اندلاع النزاع من خلال المسارعة إلى الدخول في عملية السلام.
ج- بذل الجهود في دعم عملية حل النزاع.
د- حصر أسباب النزاع، ومنع تجديده مستقبلاً.
ه- استخدام آليات الدبلوماسية الوقائية التي تتمثل في الإنذار المبكر، وبناء الثقة، وتقصي الحقائق.
وإذا لم تتمكن الدول من لجم نفسها ومعالجة أمورها، ووصلت إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية في ما بينها، فيمكننا أن نقترح لمعالجة هذا الوضع "حل الخلافات الدولية بالطرق السلمية" التي تنص عليها المادة (33) من الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة، والتي حددت مجموعة من الوسائل تعتمدها الدول من أجل حل نزاعاتها. ومن هذه الوسائل الوساطة والمساعي الحميدة والمفاوضات، وغيرها.
ويمكن القول إنّ الاعتماد على الوساطة والمساعي الحميدة والمفاوضات خاصة، قد حالت، في كثير من المرات، دون تحوّل نزاعات دولية إلى حروب مدمرة يكون أولى آثارها قطع العلاقات الدبلوماسية. وعلى ذلك فإن المفاوضات الدبلوماسية التي تجرى بين الدول هي إما لتحسين العلاقات بينها وإما لإزالة مظاهر ونقاط التوتر والخلاف بصورة إيجابية، وبغرض خدمة المصالح المشتركة بينها، وفتح قنوات الحوار وآفاق التعاون في جميع الميادين.
وهذه الوسائل كفيلة بإبعاد أسباب القطع والخلاف في الحاضر وجعله نادر الحدوث في المستقبل. وعلى الرغم من أن المادة (33) التي أوردناها آنفاً، قد أشارت إلى طرق أخرى لحل النزاعات بالطرق السلمية، فإن هذه الوسائل الثلاثة تعد أكثر دبلوماسية من الأخرى لأنها تكتسي الصفة القانونية أو القضائية، وكان لها أثر إيجابي في الواقع العملي وكانت أكثر فاعلية من غيرها في توطيد العلاقات الودّية في إطار التعاون الدولي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.