المُشترك الجَميل بين جيل التّسعينات، تلك الأيام السّارة، أيامٌ خلقَت شباباً متعطّشاً للنجاح، شباباً يتلألأ بالأمل. كيف لا وقد كانت تُداعب آذاننا أغانٍ وكأنّها مرسلةٌ إلى شيوخٍ حَكيمة، أغانٍ مليئةٍ بالرسائل المُلهمة، رسائلٌ ربت فينا روح المسؤوليةِ والإنسانية، رُوح إِبقاء الأَمل حتى في أحْلك الظروف، وهاهنا نحن واقفون في وجه رياح الحياة، رياحٌ حتْما لن ترحم ضعيفَ إيمانٍ، سريعَ السُّقوط. أغانٍ علَّمتنا كيف الصُّمود، وكيف أنَّ أبسط اللحظاتِ الجميلةِ ستنسينا الإِخفاقات، هي ليست إخفاقات كما يراد بِها الادعاء، هي دروسٌ وعِبر، عبرٌ زادَتنا وستزِيدنا دون شكٍ قوةً وإصراراً، قد نتوه وسط أنفاق مظلمة، ولكن لكل واحد منها وميض في الأفق القريب، وميض يوصل الى انعطافه ميسرة محسومة.
ما زلت أتذكّر ألحَان (أَنا وأَخي) وهي تتسرّب بين شفَتي (رَشا رِزق) رافعةً من مكانة الأمّ المبجّلة بين أذْهان الأطفال، جاعلةً مِنهم جيلًا محبًّا شغُوفاً مفتخراً بمكانة الامّ في القلُوب. سوف يوافقني الرأي جيل التِّسعينات على أنَّ قناة (سْبيستون) بَصمت في ذاكرتهم لحظاتٍ جميلةً، وزادتهم قِيماً طيبةً، فمازال (القنّاص) يشُد بأيدينا نحو الإنْصاف، نحو انتصار الخير وانهزام الاشْرار، ألم يلْبث (بابار) يُلَقن لنا دروساً في تسبيق الخير قبل أي شيء، كيفَ لنَا أن ننْسى (هزيمَ الرّعد) وكلماتِه التي تشُقُّ الصخور، وفي أثناء كل هذا، كان من الموجب إِضفاء كوكبٍ خاصٍ بالرّياضة، كوكبٍ أظهَر لنا الصّورة الحقيقيةَ لعالمٍ لا يخْلو من الإنسانيةِ والمنافسة الشريفة، فتتابعت انتصارات (سابق ولاحق) في ميدان السيارات، وما كان لِ (أبْطال الكُرة) و (الكَابتن ماجِد) إلّا ليزيدونا ثِقَة في أنفسنا حتى في أقْسى الظُّروف، صحيح أنَّ الهجْمة الواحدةَ قد تتطلّب حلقاتٍ عدة ولكن الحلقة الواحدة تسْتخلِص عدّة عِبر.
كانت هذه الكواكب تنسج إبداعنا بخيوط من أمل، كانت مدرسة لنا أنتجت جيلاً معطاءً عن لاحقه، تربى على الحب والصداقة والعدل. أمر محزن ما وصلت إليه الأمور الآن، أشفِق صراحةً على جِيل اليوم، جيل ما فتِئت كرتونيات أيّامه هذه تنْهشُ من إبداعِه وتُسقِط قيَمهُ أرضاً، كيف لا وهِي مملوءةٌ عن آخِرها بمشاهدِ العنْف المبالغ، ومنطِق الخِرفان. أخافُ حقاً من أن يعتمِد هذا الجيل حصراً على كرتونيات السَّاعة، ستُذهِب عقله حتماً وتَرمي به إلى سلَّة المهمَلات. أتمنى أن تتدخَّل الأسْرة في الخَط تفادياً لنشر البلاهة بين أطفالها، فليس كافياً اختيار القنوات لأطفالنا، بل علينا فرز الكرتون أيضاً، فكم سيكون جميلاً لو اسْترجَعنا معهم ذِكرياتِ ماضِينَا، وما المانِع في مُجالستِهم ومشَاهدتها لعلَّنا نوقِظ أحاسيسَ الطفولة.
كم أحِنُّ لتِلك اللّحظات، يوم كنت أهروِل بعد انتهاء حصَّة الدرسِ، مسرِعًا باتِّجاه صدى أغاني (رشَا رِزق) و(طارق العَربي طرْقان)، عُظماءُ طفولتِنا، ملهمو عزيمتِنا، كيف لا و هم لم يتوانَوا عن إيصَال طبقٍ من كلماتٍ موزونة، وألحانٍ مدروسة، حفِظها الكبار قبل الصِّغار، مردديها عبر سِنين طِوال لتَبقى شامخةً معلنةً عن حنينٍ لماضٍ بزغَ مِنه جِيل الأمل، فكم من عزيمةٍ انْتفضت بكلمات (الدْراغونّبول)، وكم أشقّت كلمات (رِيمي) الطَّريق لآمال بين الظنون، يوم نفَض (كُونان) الغُبار عن ذكاء الآباء قبل الأبناء، ويوم أحْيى (رُوميو) في (عهْد الاصدِقاء) الحياة لمعنَى الصَّداقة، وبين هذه الأغاني وتِلك، تُطلُّ لغةٌ عربيةٌ فصْحة، تُداعب قلُوب هؤلاء الصِّغار، لنصِير الآن من عشَّاقِ لغةٍ عميقةٍ مؤثرةٍ، لغة الضّاد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.