في الواقع، أن وتيرة انتشار الشعوذة ونشر الفكر الخرافي بالمغرب وبالمنطقة المغاربية والعربية، يجعلنا أمام معادلة صعبة، بحيث أننا نعيش في القرن 21 والذي يتميز بثورة تكنولوجية قوية واكتشافات علمية في مجالات عدة؛ خاصة في مجال الطب، وفي ذات الوقت نجد مؤسسات الدجل تنتشر كالفطر في شكل عيادات طبية ومراكز للعلاج، حتى أن أحدهم حدد تكلفة العلاج في كونها تتراوح ما بين عشرة آلاف وثلاثين ألف درهم حسب نوع الجن وخصائصه.
لفهم هذه الظاهرة، التي تجمع بين نشر البلادة العقلية والنصب والاحتيال، بدأت أقلب بين دفتي الكتب، التي درست الإسلام، فوجدتني مرة أخرى أمام E. Doutté في دراسة حول الإسلام بالمغرب والتي وصف فيها مجتمعات شمال إفريقية بالبدائية، من خلال تناوله بالدرس والتحليل أشكال التدين وعبادة الأولياء، مستنتجا أن المغاربة ليست لديهم قدرة على تمثل الغيب إلا من خلال التجسيد لذا يميلون إلى عبادة الأولياء والعديد من مظاهر التدين المرتبطة بالطبيعة.
في اعتقادي أن الأمر أكبر من ذلك وأن E. Doutté لم ينفذ إلى عمق المشكل والمتمثل في النظام التعليمي، الذي شرحه بشكل دقيق أيكلمان، بحيث نحن أمام نظام يمنع الاجتهاد ويمنع الشرح وبالتالي يجعل العقل الإسلامي غير قادر عن إدراك المحيط، مما يجعل الفرد امرأة كانت أم رجلا يعتقد في الأشخاص وفي الجهل من أجل أن يفهم ذاته.
انتشار ثقافة ممارسة ما بات يسمى بالرقية الشرعية وعالج الجن وإبطال أنواع السحر من الناحية الأنثروبولوجية، لها قدرة على تشكيل الرأي العام ولها صلة بالثقافة الشعبية العامة في المجتمع |
إن النظام التعليمي الذي ساد في المغرب منذ عصر انحطاط الغرب الاسلامي منع استخدام العقل مما قوى الإيمان لدى ساكنة المغارب بالظواهر الغيبية؛ من جن وعفاريت وغيرها من أعمال السحر، حتى أنها صارت سلوكا يميز بعض المناطق في المجتمع المغربي، مثلما قوت من ظاهرة ربط التدين بالأولياء والزوايا والعديد من أشكال التدين، التي تواجدت في مغرب ما قبل الميلاد وميزت الإنسانية في مرحلة الميتافيزيقا ومرحلة اللاهوت.
هذا الحجب للعقل؛ ظل حاضرا حتى لدى النخب الساهرة على التعليم ووضع برامجه، مما جعلها تقوي من التفسير اللاهوتي والميتافيزيقي، وتحارب التفكير الفلسفي والعقلاني، وهو ما ساهم في استمرار الفكر الخرافي واللاهوتي في مؤسساتنا التعليمية بما فيها الجامعة وبعض مؤسسات الإعلام، التي صارت تروج للفكر الخرافي من خلال استقدام ممارسي حرفة ما يسمى بالرقية الشرعية على أمواج الإذاعة، لأنهم أدركوا جيدا أن هدم التعليم يستبيح النهب.
إن النظام التعليمي حسب حسن حنفي أنتج البلادة العقلية، والتي لم تترك للفرد من خيارات تفتح حجاب العقل والتفكير، سوى خيار واحد هو الانصهار في الوظيفة أو المكسب، فإن ضاقت اليد فالهجرة، وإن تأزم الفكر فالتطرف في الدين والجنس والمخدرات.
فالأمر هنا يتعلق بقضية التراث والتجديد وليس بمجتمعات بدائية لما ذهب إلى ذلك E. Doutté كما أن الأمر يرتبط بتغيير نظم التعليم، من نظم تخاطب العقل وتعمل على استخدامه، إلى تبني نظم ملأها التراث المتقادم، الذي يجد في المرجعية اللاهوتية والميتافيزيقية، والتي تعتمد في الغالب على الكتب الإسلامية التقليدية، كابن القيم الجوزية وابن تيمية، وتشكل هذه المرجعيات سندا لتفسير الأحداث ولفهم الذات الإنسانية، مما ساعد على انتشار دكاكين الدجل والشعوذة بترخيص من السلطات، الشيء الذي أسس لانجذاب ثقافي خرافي.
إن انتشار ثقافة ممارسة ما بات يسمى بالرقية الشرعية وعالج الجن وإبطال أنواع السحر من الناحية الأنثروبولوجية، لها قدرة على تشكيل الرأي العام ولها صلة بالثقافة الشعبية العامة في المجتمع. وبالطبع فهي تلعب دور الوسيط بين المريض والله وهنا يتحول ممارس ما يسمى بالرقية الشرعية أو الفقيه إلى مقدس مثله، مثل الوالي أو الضريح، مما أكسب هذه الفئات سلطات واسعة، مكنتهم من الكسب المادي ومن تبوء مكانة مهمة في المجتمع، من خلال نسجهم لعلاقات قوية مع العديد من الشرائح الاجتماعية.
هذا الانتشار والارتباط بالثقافة الشعبية وتشكيل الرأي العام يعطل بلورة سياسات اجتماعية، تجيب على المشاكل الصحية، التي يعانيها أفراد المجتمع وهو ما يساعد النخب السياسية على نهب المال العام بشكل أكبر والمساهمة نشر البلادة العقلية عن طريق الترخيص لمثل هذه الدكاكين ولمؤسسات إعلامية تستقدم ما يسمى بالمعالجين الروحانيين، حتى تزيد هذه النخب من نتشر البلادة العقلية وتتمكن من النهب بشكل أريح.
في تقديرنا أن انتشار العديد من الممارسات العلاجية سواء منها تلكم المرتبطة بما بات يعرف بعالم الروحانيات أو تلكم المرتبطة بما يسمى بالتنمية الذاتية، تعد مؤشرا على أزمة العقل وأزمة التعليم ببلادنا، هذه الأزمة تجد تفسيرها في انغلاق مؤسسة التعليم الديني الإسلامي منذ انحطاط الغرب الإسلامي؛ على ما هو تقليدي ورفض لكل محاولات التجديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.