شعار قسم مدونات

غزة بين الماضي والحاضر

blogs غزة

كان لا بد لتلك المدينة متقاربة الأطراف صاحبة الحروب الثلاثة التي لم يطمثها قبلهم إنس ولا جان، أن تتحدث عن تلك المؤامرة التي كانت سراب يحول بينها وبين منعطفات التاريخ التي باتت تشكل جزءاً كبيراً من تلك التطلعات الحقيقية الغير ملموسة في ذات الواقع الأليم، والذي يكاد ينهال ضرباً وخنقاً على أهالي تلك البلدة الطبية التي ما زال كل كائن فيها يحتفظ بروايات عميقة لا أفق ولا كم ولا كيف يستطيع أن يجعلها في حسابات البعض، كي يتفاخر أمام جمعه بأنه جزء لا يتجزأ من انتصاراتها الحقيقية. رغم كل تلك العقبات والمراحل التي لا يجهلها إلا أحمق يريد بأهلها شراً بواح ويرق فيهم منتظراً هزيمة نكراء تأتي من القريب قبل البعيد لعلنا نجد ما يجول في خاطرنا. هل رضعوا من ثدي الخيانة والعار، أم أنها فوبيا أصابت روحانياتهم المزيفة وأصولهم الملوثة، أم انها خيار مفتوح أمام ضعيفي النفوس. وبعد تلك الإجابة تجد في خاطرك يجول بعض منها حول أهل دينك وعقيدتك التي ولدت عليها.

 كيف لنا أن ننسى أقصانا ومسرانا وأسرانا وثوابتنا وكل ما يتعلق بالقضية التي باتت علي ناصية النسيان معلقة، لا يمر عليها سوى القليل من العابرين الذين  تبوؤ الدار بعد معارك طاحنة دارت في ضواحيها. وهل تكون تلك الابتسامة مجرد حلم يرتع في منافي الارض من مشارقها ومغاريها، أم انها قد تكون واقع يأتي بعد مخاض أليم يصول ويجول، كي نكون على استعداد من وعد نزل في القرآن الكريم وصدقه رسول الله في سيرته وأحاديثه وأفعاله وأقواله. وبذلك تكون حجة لنا لا علينا أننا فرضنا على أنفسنا وقبلنا تلك المعادلة الربانية التي ما تزال تجول في خاطر البعض على أنها شيء من الزمان والمكان التي تناساها الناس على حين غفلة، كي لا تكون سراب يرتع خلفة المخلفون من الأعراب. فيقولون آمنا بكم وهم ليسوا بمؤمنين وتكون تلك أمانيهم التي صدقوها فباءوا بغضب على غضب تتنزل عليهم من السماء والذي وعدهم وعد الحق انهم اليها لا يرجعون.
 

كل الغزاة عملوا على تدميرها، علهم يستبدلون بتاريخها الحقيقي تاريخاً مزيفاً. لكن عندما أتاها العرب بقيادة كل من خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وضموها للخلافة الراشدة

في غزة عرفت كل ممالك العصور القديمة مارون غير قدماء المصريين والفرس والآشوريون والبابليون والإغريق والرومان ومن جاء من بعدهم. كانوا جميعهم عابرين في تاريخها. كل الغزاة عملوا على تدميرها، علهم يستبدلون بتاريخها الحقيقي تاريخاً مزيفاً. لكن عندما أتاها العرب بقيادة كل من خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وضموها للخلافة الراشدة في عهد الخليفة الأول لم يمسسها أي أذى. حتى من حارب من أهلها إلى جانب البيزنطيين نالوا الحرية عاونه العقيد صلاح مصطفى الملحق العسكري المصري في الأردن، الذي قاد حملة فدائيين مماثلة انطلقت من الضفة. كانت حصيلة أعمال الفدائيين 1400 قتيل للعدو، كلفت موشيه شاريت رئيس الوزراء حينئذ منصبه. ومن ثم اتخذ بن غوريون مع وزارته قرار الحرب على مصر في غضون عام، مما دفع إسرائيل للإسراع في سبتمبر/أيلول 1956 لعرض خدماتها على بريطانيا وفرنسا بالاشتراك في عدوانهم على مصر، الذي كان هدفه القضاء على نظام جمال عبد الناصر. تتصدر العناوين من جديد وتحاول ان تنهض بشموخ، تقف أمام البحر لتعلن عن هويتها، وتقول ما يمكن أن يقال في حضرة القتل والتقتيل للغة الضاد بأزقتها. جاءت هذه المرة واستحضرت تاريخ كل من عبر دروبها، ومن انكسر على بواباتها. لم تخف موج البحر الهادر المائج الهائج وصاحبت غضبه وأربكت كل ُ غزاتها، كانت تنتظر عشاقها المتسللين إليها ليلاً ليحكوا وإياها حكايا الليل المنسدلة ستائره بعد النهار العابث بحواريها.

 اسكندر المقدوني اقتحم البحر ووقف حائراً أمام أسئلتها، وأبت غزة الاستسلام لملك ملوك كسرى القادم لحصار غزة. غزة عرفت وتعاملت مع الحصار منذ بدايات التاريخ، وأتقنت معادلة العيش ومقاومة اتجاهات الريح المعاكسة، وعرفت كيف تصنع جبروتها فارضة ذاتها على عناوين الوجود. غزة القادمة عنوة إلى هوامش الحياة من خلالها تتسلل حياة الممكن في ظل سقوط الأقنعة عن الجمع، وتعرف كيفية التعامل مع أشكال القادة، فمنهم من قضى نحبه على دروب العودة الممكنة الى خاصرة الامتداد الطبيعي لجغرافيا الكثبان الرملية، عاصمة عواصم الفقر والقتل لم تقف على الحياد يوماً، متمردة عصية على الانكسار، وهي العائدة دوماً. غزة ومنذ ما يسمى بفجر التاريخ تتشبث بهويتها الحضارية وان كانت عند أطراف الموت مرمية، هي العاشقة بامتياز لإيلياء العظيمة وحفظت وصاياها وفككت رموز العشق فيها، وكان لها بصماتها المنقوشة على جدران البيت العتيق. غزة المدافعة الشرسة عن عظمة الانتماء للكنعانية الأولى، والحافظة للمواثيق، المتجذرة بالغضب والعاشقة للحياة، غزة الصارخة بوجه جبناء الواقع الذين يرقصون على وجعها، تنتفض عائدة الى حيث حاولوا اقتلاعها وسلخها، أرادوا لها الموت البطيء فنهضت وهي الناهضة دوماً ومارست حقها الطبيعي بالعودة إلى أقاصي الشمال.

كانت مسيرة العودة لجموع جماهيرها، نداء بوجه الجميع وصرخة مرتدة عن جدران قصور الزعامات التي تلعب وتستثمر بمصير غزة من خلال صراع أباطرة مراكز القوى
كانت مسيرة العودة لجموع جماهيرها، نداء بوجه الجميع وصرخة مرتدة عن جدران قصور الزعامات التي تلعب وتستثمر بمصير غزة من خلال صراع أباطرة مراكز القوى

كانت الدعوة طبيعية لغزة أن تمارس عودتها وأن توقف العبث بأزقتها وإحالتها الى كتلة بشرية وسخة تستجدي العيش وبعضاً من فتات الخبز، وبصرف النظر عن الداعي وممن أتقن اللعب بالكرة البائسة ووقف مزمجراً امام الحشد، وممن حاول أن يعبث بالألم وممن يشكك بإرادة القهر، وممن يدعي الانتماء لبحرها وممن يتربع على عرش الأبوة، والكل شارك ويشارك بفعل الذبح من الوريد للوريد. والدعوة هنا تبلورت من الكل والكل هنا يعني الكل زعماء الطوائف وأمراء اللحظة وانتهازييي الموقف والكاظمين الغيظ، والعابثين عند أول الصبح، والعبيد والسادة وتجار المواقف والشرفاء والفقراء والأغنياء والموحدين والملحدين، وقادة الرأي والاطفال والنساء والجميلات والحانقات والأرامل والثكالى والرجال، وملح الأرض والزهر والتين والزيتون. كانت الدعوة من الكل بعد أن سئمت غزة كل هذا الليل والتطرف بالقتل والكذب المتقن عليها وحياتها. فقد أدركت غزة الحقيقة ومارست أحقيتها بتلك الحقيقة ومنذ البدايات، وإن الحق لا يُعطى لمن يسكت عنه، وأن على المرء أن يحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد، وغزة تريد وتريد، تريد حريتها وتريد عيشها بأمن وأمان وتريد كرامتها وترفض أن تصبح مفردة في خطابات المناكفة وتصفية الحسابات.

 وكانت مسيرة العودة لجموع جماهيرها، نداء بوجه الجميع وصرخة مرتدة عن جدران قصور الزعامات التي تلعب وتستثمر بمصير غزة من خلال صراع أباطرة مراكز القوى، والعاملين تحت جنح الليل لتبقى غزة رقماً في حسابات الصراع على موائد الكبار في حسبة صناعة ممالك وإقطاعيات. وتعرف غزة كيف من الممكن أن تقلب الطاولة وتتقن خربشة الموازيين من جديد، وهي العالمة بخفايا عواصم التآمر والقرار. لم تكن مسيرة العودة مجردة من سياقها التاريخي، فممارسة الحق بالعودة إلى غزة وإحالتها إلى مكان للعيش إن كان ذلك ممكناً هو الهدف، ومن حق فنان النقش بالرمل على شواطئ العزة أن يغادر البحر إلى عواصم الإبداع ويحتفي بلوحة فنية مع جميلة عند آخر الليل. ومن حقه أن يعود إلى حيث أراد العودة.

 غزة تشكلت في وجدان الجمع كضمير مستتر ملعوب فيه مرفوع تارة ومجرور تارات أخرى، غزة مارست بالأمس حقها بالألم والتعبير عن الوجع. تتسلل المشاهد وتقتحم وعينا ونمارس حق التأمل بالمشهد العظيم للاندفاع بالشوق والتوق للانعتاق من وهم الصمود. غجرية تسللت الى أزقة المدينة، كانت تتراكض هناك وسط الجموع، أطلقت العنان لآهاتها، تبحث عن هويتها، ومخزون مكنوناتها، تفتش بين السطور ووسط الكلمات عن معانيها، تدور في فلكها المتمرغ بوحل الأرض السمراء، تسكن القلاع وتتأبط شيء من التاريخ لتزهو. بذات يحاولون سحقها تحت نعال مغتصبي الليل الجميل الزائر لحواري المدينة العتيقة الرابضة على متوسط البحر، تجيء بكامل رونقها ماسحة على لوحتها شمس الفقر والحرمان الحارقة، وللسمراء المنتظرة عند زبد بحر النسيان تجلس غزة، وبلحظة تصرخ من شدة الألم وحرقة الشوق لمعاودة ممارسة الحياة. فقد سئمت غزة من هذا الصلف ومن هذا العجز ومن هذا الليل الحالك السواد ومن كل افعال الاغتصاب، والعاهرات القادمات عند أول الصبح يفضحن عجز الرجال، الموسيقى حزينة هذا الصباح، ونباح الكلمات لم يعد يجدي، وحجارة القلاع اهتزت، والسفن غادرت الموانئ، والعجائز لم يعدن يجلسن على بوابات الانتظار، والوحش أفلت من عقاله، وجن جنون عشاقها، وتصدرت العناوين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.