شعار قسم مدونات

مُنَاجَاة تائبة

blogs صلاة

عندما شكى قلبي جراحًا مسَّت شِغافه، وأنَّ فؤادي من ألم تنزَّى بين ضلوعي، قصدت من حولي من النَّاس لأنبئهم شكوى قلبي وأُسمعهم أنين فؤادي، لكنَّني رأيت نفسي بينهم أشبه بمتشرِّدةٍ وسط صخبٍ ولغطٍ سوقيٍّ، فكُلُّهم ينشغلون عنِّي بغيري ويصمُّون عن سماع وجيب صدري. وعندما جنَّ اللَّيل، ورنَّق النُّعاس في العيون، وداعب النَّوم الجفون، تسلَّلت إلى الغرفة المتطرِّفة في البيت لأتأمَّل حالي وأجد شفاءً لدائي، فرأيت الكون كلَّه يغمرني بفيضٍ من العطف ويدفئني بثوبٍ من الأنس والرَّحمة الَّتي لم أجد مثلها إلَّا في حضن أمِّي، ووجدت نفسي غارقةً في بحر من الحنان الدَّفَّاق الَّذي يسعد الوجدان ويبهج الحيران. فعلمت عندئذٍ لماذا يصبُّ أصحاب القلوب الكسيرة شعرهم كلَّه في فترة الغسق بين أعطاف الظَّلام، وأدركت في تلك اللَّحظة أنَّ سواد اللَّيل الحالك أكثر إشراقًا في عيني من ضياء الفجر اللَّامع!

أخذت أتساءل عن حالتي السَّيِّئة في ذلك اليوم الرَّهيب الَّذي تنشر فيه أعمال كلِّ فردٍ منَّا على مرأى ومسمعٍ من البشر والملائكة والجنِّ! خمَّنت فيما جنيته من حرامٍ، وما ارتكبته من آثامٍ رغم مراقبة الله لي والثِّقة الَّتي وضعها الآخرون فيَّ! ندمت أشدَّ ندمٍ، وحزنت أحرق حزنٍ، وبكيت أحرَّ بكاءٍ، بيد أنَّ دموعي قد طهَّرت قلبي، وسَمَتْ بروحي، وفتحت لي الأبواب على مصراعيها لأكلِّم محبوبي الأعظم. فلهج قلبي بهذا الحديث الشَّيِّق، وفاضت مهجتي بهاته النَّجوى الحزينة: إلهي، كيف أفقد الأمل في رحمتك، وأنت من أبدع الأفراح من الأحزان، وأخرج النَّهار من رحم اللَّيل؟ كيف يكون قلبي كسيرًا يا إلهي، وقد امتلأ بفيض الإيمان بك، وجميل التَّوكُّل عليك، وقد كنت ولا زلت وستبقى، الضِّياء الَّذي يبرق في حناياه والنُّور الَّذي يلمع في سويدائه؟ بل كيف لا يكون كسيرًا، وقد ضلَّ عن سواء سبيلك، وحاد عن درب رسولك؟!

لكنَّ في كلِّ خطأ هناك نورُ عظيم، وفي كلِّ ابتلاءٍ نعمةٌ من ربٍّ حليمٍ، فلو كنتُ معصومةً من المعاصي، لما أنعمت عليَّ بنعمة مناجاتك ولذَّة الحديث إليك يا إلهي! لئن عذَّبتني ذنوبي، وأبكتني صروف الأيَّام واللَّيالي، فإنَّ عزائي الوحيد هو عظيم ما أمَّلته من رحمتك الواسعة ومغفرتك السَّخِيَّة، وإنَّ بلسم جراحي هو لذيذ ما وجدته هنا من نشوة الأنس بك، تلك النشوة الَّتي أحسستها خلال دمعي السَّاخن الذِّي يسيل من عيونٍ تحبُّك وتخشاك، وشتَّان بين دمعٍ اعتصره الألم، ودمعٍ أنزله فرط الإيمان بك، وشتَّان بين ألمٍ أحدثته المشاكل الدُّنيويَّة، وألمٍ رائعٍ ينشأ عن حبٍّك وخشيةٍ منك.

 

إلهي، إنَّ هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، فأعشني حميدةً، وأمتني شهيدةً، وأكرمني وأحبابي بخاتمةٍٍ حسنةٍ ترضيك، فإنَّ أخشى ما أخشاه هو أن أموت وأنت عليَّ ساخطٌ
إلهي، إنَّ هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، فأعشني حميدةً، وأمتني شهيدةً، وأكرمني وأحبابي بخاتمةٍٍ حسنةٍ ترضيك، فإنَّ أخشى ما أخشاه هو أن أموت وأنت عليَّ ساخطٌ
 

فيا إلهي، أعوذ برحمتك أن تبدِّلها بقسوةٍ لا صبر لي عليها! مولاي العظيم، إنَّني أرى شمعة أملي في غفرانك لذنوبي، وتجاوزك عن خطاياي، تشعُّ بجلالٍ باهرٍ في دربي وترشدني إلى عالمٍ مثاليٍّ لا مثيل له! وإنِّي أبصر ضياءها في جمال بلدتي، في رونق أشجارها، وبهاء أزهارها، وتغريد أطيارها، وتماوج أعشابها فوق التِّلال، وبياض ثلوجها فوق الجبال، وندى صباحها فوق أوراق البرتقال، فهل كانت من قبل هكذا، محرابًا للجمال؟

لا، بل كانت على الأرجح أرضًا مجدبةً صحراء، نشرت فيها رحمتك الَّتي أخرجت من صلابتها رقَّةًً تذهل بها النَّفس، وفتنةً يذوب منها القلب! كانت مساحةً مهجورةً قفراء تسودها وحشة اليأس، ظلَّلتها بجناحٍ من عطفك الإلهيٍّ العجيب فإذا هي تفيض نضرةً وخضرةً، وتتزيَّن بحلَّة البهاء والأمل الباسم! فيا من اجتمع في قضائه اليأس مع الأمل، واستوى في ميزانه الموت مع الحياة، يا من أظهر أرقَّ ما في الحياة من قساوتها، ويا من أبدع سعادة الدُّنيا من كآبتها، يا مولاي العظيم ويا إلهي الكريم! كيف أخيب وأنت أملي، وكيف أهون وعليك مُتَّكلي، كيف أيأس وأنت ربِّي، وكيف أقنط وأنت حسبي؟! يا إلهي، انصرني على نفسي قبل حلول رمسي وأفول شمسي، اجعل منها منارةً للغير وسنبُلةً للخير، اُعف عنِّي واغفر لي، جُدْ بإحسانك على كلِّ من كان سببًا لتوبتي، اعصمه من زلَّات الإنسان ووساوس الشَّيطان.

إلهي، إنَّ هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، فأعشني حميدةً، وأمتني شهيدةً، وأكرمني وأحبابي بخاتمةٍٍ حسنةٍ ترضيك، فإنَّ أخشى ما أخشاه هو أن أموت وأنت عليَّ ساخطٌ، فتطردني من رحمتك، وتقصيني من مغفرتك، وتوصد في وجهي أبواب جنَّتك، أعوذ بعظمتك من هذه النِّهاية المأساويَّة.. إلهي، صلِّ وسلِّم على طبيب القلوب وشفائها، وعافية الأرواح ودوائها، ونور الأبصار وضيائها، محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، وأنلنا شفاعته يوم القيامة بإذنك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.