كثيرة أعدادها! تلك الأروحُ التي تجرعت من شَهدِ هذه الحياة، ثم مَضت وانتقلت في الخالدين، فكان مِن بينها أروحٌ عظيمة خَلَدَت آثارًا نُقشت على صَفَحاتِ الزمان والمكان، حيث جعلت من جودة الأداءِ دليلًا، ومن الإخلاص وإتقان العملِ سبيلًا، ومن الإحسان منهجًا، فباتت معالِمُها ظاهرةً ترويها مَصفُوفَات منطقية لطيفة.. ابتسمت وأشعلت النور؛ لتقرأ حروف كتاب الأثر الجميل من مكتبة العمل. بينما هنالك أروحٌ تلاشت معالِمُها، وذهبَتْ آثارها أدراج الرياح خلف ذلك الحطام بمجرد عِناق أول حبة رمل من مثواها الأخير.
عندما تُعانق روحك السماء تترك خلفها آثارًا تُخلد وتُذكَر من بعدك خيرًا كانت أم شرًا، بل إنك سَتُجزى عليها؛ قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يس: 12، فالله تعالى يكتُبُ آثار الخير وآثار الشر التي كنت يومًا ما أنت سببًا في صُنعها سواء في حال حياتك أو بعد مماتك، يكتُب الله الأعمالَ التي نشأت من أقوالك وأفعالك وأحوالك، فكل خيرٍ تعمله؛ مِن نشرِ علم نافع، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر – يكتبه الله تعالى لك وسيجزيك عليه.
أفضلُ العباداتِ أكثرُها نفعًا للناس، فالعاقِلُ الحَصِيفُ اللَّبيبُ هو الذي يترُكُ أثرًا بعد رَّحيله حتى لو كانت ابتسامة |
إن ما يُميز الأرواح العظيمة عن غيرها من الأرواح قيمة وجودها بعد عناقها السماء، وصناعتها للأثر الطيب حتى وهي تفترش مثواها الأخير. قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: (إن قامَت الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسِيلَة، فإن استطاعَ ألا تقومَ حتى يغرِسها فليغرِسها). هذا الغرسُ الذي يغرِسُه الإنسانُ ولو لم يَجنِ في حياتِه ثمرةً، يُعدُّ أثرًا يبقَى له وللأجيالِ من بعدِه جيلًا يورث جيل، وفيما فاتورة حسناته تتدفق في كفةِ ميزانهِ تُصبح روحه حَية كأنها بيننا؛ قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: (ما مِن مُسلمٍ يغرِسُ غرسًا، أو يزرعُ زرعًا فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقة). وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: (مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فله أجرُه وأجرُ من عمِلَ بها بعده من غير أن ينقُص من أجورِهم شيءٌ).
ومن هنا؛ إن من يدرك ويعي أجر صناعةِ الأثَر الطيب سمَا في آفاقِ الاجتِهاد والتنافُس. يقول الدكتور محمد المنجد: "إن من أعظم الأعمال أجرًا، وأكثرها مرضاةً لله – عز وجل -، تلك التي يتعدَّى نفعُها إلى الآخرين؛ وذلك لأن نفعها وأجرها وثوابها لا يقتصر على العامل وحده؛ بل يمتد إلى غيره من الناس، حتى الحيوان، فيكون النفع عامًّا للجميع. ومن أعظم الأعمال الصالحة نفعًا؛ تلك التي يأتيك أجرها وأنت في قبرك وحيدًا فريدًا، ولذا يجدر بالمسلم أن يسعى جاهدًا لترك أثرٍ قبل رحيله من هذه الدنيا ينتفع به الناس من بعده، وينتفع به هو في قبره وآخرته". لذا فإن المُسلمُ حَسنُ الخُلق، صاحبُ السيرة الحسنة والأثر الجميل هو النموذجُ المُثمِر، حيثما حلَّ ترك أثرًا طيب؛ فسلُوكُه وأفعاله قُدوة، وروحه العظيمة منارةُ إشعاع بجميع منابر الحياة.
إن مجالات صِناعة كيمياء الروح العظيمة مُتنوِّعة، بل لها أيضًا أشكال مُتعدِّدة، يختارُ كلُّ فردٍ ما يُلائِمُ إمكاناتِه، وما يتوافَقُ مع قُدراتِه ومواهِبِه، حيث يمكنك أحداث تفاعل في شتَّى مجالاتِ الحياةِ وبجميع مختبراتها بإنشاء مركب الأثر الذي سَيُخلد ما تركت من خير إلى يوم القيامة، حيث كان صحابةُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – الذين ترَكُوا أثرًا فاعلًا في شتَّى مجالاتِ الحياةِ؛ في الإصلاح، في القضاء، في الإنفاق، في الجهاد، وفي العلم. وكلُّ نفعٍ مُتعدٍّ يغرِسُ خيرًا، وتصلُحُ به الحياة يكون أثرًا طيبًا وأجرًا دائمًا؛ المهم أن تتفن في صناعة هذا المركب بما يحويه من عِلم، والدعوةِ، وقضاءِ الحوائِج، ونُصرة المظلُوم.. فأفضلُ العباداتِ أكثرُها نفعًا للناس، فالعاقِلُ الحَصِيفُ اللَّبيبُ هو الذي يترُكُ أثرًا بعد رَّحيله حتى لو كانت ابتسامة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.