شعار قسم مدونات

فنون النخب في القمع الخفي للنقد

blogs people

تتحسّس المجتمعات من القمع وخطابه المباشر وتعبيراته الصريحة، وقد لا تفطن إلى فنون متضافرة من القمع الخفي للحسّ النقدي وروح التمحيص وحظوظ المناقشة. إنّ الضالعين في استعمال فنون القمع الخفي، بوعي أو بدون وعي، حاضرون في مواقع النخب على تعدّد أصنافها وشواغلها واختصاصاتها، حتى أنّ بعضهم يرفعون شعاراتٍ مجيدة لا يمتثلون لمقتضاها كما ينبغي، وقد يتسلّحون بمزاعم الترحيب بالآراء المخالفة وإبداء رحابة الصدر إزاءها؛ ثمّ تخور مزاعمهم في واقع التفاعل وتهترئ شعاراتهم في حلبة التمحيص. وقد تكشف النظرة الفاحصة عن أنّ بعض المنادين بالانفتاح ليسوا سوى إعادة إنتاج لحالات شديدة الانغلاق ولا تحتمل نقداً يوجّه إلى مقولاتها.

 

مكاشفة واجبة مع النخب العربية

من المكاشفات الواجبة مع واقع النخب العربية الراهن، على تعدّد مشاربها وألوانها، أن تُصارَح باستشراء هذه الحالة خلالها، وبتفاقمها في اتجاهات شتى، وهذا بمفعول تأثيراتٍ شتى آخذة في التفاعل مع صراعات المرحلة وتوتّراتها بكل ما أثقلت به كاهل الوعي العام من ثقافة التعبئة والشحن. كما تّذكي الشعبويةُ الطافحة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وفيض المواد المزيّفة؛ هذه الحالة التي تتأجّج في غلوِّها، حتى أدرك بعضهم أنّ الانخراط في جوقة التأجيج سبيل ممهّدة للذيوع وإحراز الإعجابات، في تملّق ذميم لرغبات جمهور وقع تسخينه.

 

النخب التي تُطلِق العنان لأساليب قمع النقد هي شريكة في ثقافة تضيق ذرعاً بالحسّ النقدي وروح التمحيص ولا تتيح فضاء للمناقشة المسؤولة، وهي حالة تجرف في طريقها مزيداً من الضحايا الذين تتسلَّط عليهم

وفي زمن التوترات والهواجس تتصاعد حالات الرّهاب المرضي غير المبرر أو "الفوبيات"، فتتعاظم بعض الفقاعات سريعاً كهاجس داهم يدفع بحاملي النِّصال للإجهاز على ضحية مُنتقاة بعد ذمِّها وشيطنتها، والتي قد تكون مجرد محاولة نقدية أو رأي مخالف مثلاً. وعند التدقيق في بعض هذه "الفوبيات" يتّضح أنها ما تَبلوَرت إلاّ حول مسائل فرعية وشكلية أو لعلّها نضجت من حالات مُفتعلة وظنون مُتوهّمة؛ لكنها استبدّت بالنخب والجماهير ضمن ثقافة تفاعلية تستقوي بالشبكات والشاشات، فتكون فرصةً جديدة للانسياق مع غواية الاصطفاف وخوض المبارزات والانغماس في صراعات رمزية على الوعي وممارسة الفتك المعنوي بأحدهم، حتى إن تطلّب ذلك انحداراً في مستوى الانشغال وأسلوبه. إنها حالة مثالية في زمن الانكسارات والحرائق الملتهبة، تتيح للنخب صرف النظر عن عجزها وقصورها وتساعد المجتمعات على تفريغ كبتها وإحباطاتها بالانشغال بصغائر الأمور فراراً من مواجهة عظائمها أو صرفاً لها عن الاعتراف بالواقع القائم من بين يديها ومن خلفها. وهكذا تتعاقب حكايات جانبية تتسلّى بها شعوب مقهورة وتنشغل بها نخب وقيادات بدل مواجهة الواقع والنظر في مرآته النقيّة.

 

في خدمة الوعي الزائف

إنّ استعلاء ثقافة القمع الخفي للحسّ النقدي وروح التمحيص وحظوظ المناقشة كفيل بإنعاش ضروب الوعي الزائف الذي تميل فيه القناعة والتأييد لصالح آراء وخيارات لا مصلحة فيها أو قد تعود بخسائر جسيمة في عاجل الأمر أو آجله. ترى نظم متهالكة وبعض دوائر المصالح ومراكز النفوذ مصالح لها في إنعاش هذه الثقافة كي ترسم هالات الشكّ حول كل مطلب إصلاحي مثلاً، ومن ذلك ما يشهده الواقع العربي من التراشق باتهامات الارتماء في الخنادق السياسية والطائفية والإقليمية المنبوذة كوصفة جاهزة لقمع النقد وعزل الناقدين.

وفي حمّى التأجيج هذه تنهمك بعض النخب بحشد الحجج المُلفّقة والذرائع الواهية في موجات تصعيدية مفتوحة ضد رأي معيّن أو موقف مخصوص، وهو ما يمنح انطباعاً بأنّ كل حجّة من هذا السيل المتدفِّق لم تكن صلبة بما فيه الكفاية، بما يستدعي التعويل على الإغراق بمقولات تعسّفية هابطة بدل العناية بالجودة والدقّة. كما ترسم بعض النخب في مسعى قمع النقد استفهاماتٍ اتهامية وكأنها إدانة مقرّرة، ولا يفوت بعضها أن تتلبَس بمبالغات لفظية تنسجم مع علوّ الموجة ولغة المزايدات والتصوّرات التآمرية.

 

إنّ النخب التي تُطلِق العنان لأساليب قمع النقد هي شريكة في ثقافة تضيق ذرعاً بالحسّ النقدي وروح التمحيص ولا تتيح فضاء للمناقشة المسؤولة، وهي حالة تجرف في طريقها مزيداً من الضحايا الذين تتسلَّط عليهم، خاصة مع تفاقم التشرذم والانقسامات وعلوّ الشك والريبة في ساحات عربية تعيش إحباطاتها الكبرى.

يجري هذا دون المساس بشعارات الترحيب بالنقد المسؤول، لكنّ بعض النخب لا تشعر بأنها معنيّة بأن تتفقّد منطق مداولاتها المتأججة وأن تفحص استقامة خطاباتها الساخنة، أو أن تُراجِع جدارة انشغالاتها وأن تتحقّق من سلامة تعبيراتها، بما يهدِّد الحال العربية بأن تنتهي في هذه المرحلة إلى وفرة من نخب متشنِّجة في مواجهة النقد، وهذا في مجتمعات تعلو في بعضها أمارات الهوَس الذي تُذكيه أطرافٌ عدّة.

    

تصنيف الناقدين وتنميطهم

يعمد أحدهم إلى تنميط ناقديه، وعندها سيُرمَى كل مخالف لما يأتي به بوصمة منبوذة يتم إلصاقها به سلفاً، مع استبعاد ضمني لأن يعبِّر النقد عن عمق في النظر وحصافة في التقدير وحكمة في القول. من المألوف أن يرسم بعضهم صورةً إيحائية ذميمة لناقدي أقوالهم وآرائهم ومواقفهم، ويقع هذا باستعمال تعبيرات لفظية وأداء صوتي ولغة جسد وتكريس انطباعات تنتهي بقوْلبة الناقد المُحتَمل حتى قبل أن يُطلَ برأسه على قومه.
    

ويبقى تصنيف الناقدين هوايةً مفضّلة لبعض الخطابات، حتى أنّ بعض "فرسان الاستنارة" ضالعون فيها باقتدار وجدارة. يأتي هذا، مثلاً، باعتبار أنّ مَن استعمَلوا النقد بحق أحدهم إنما صدروا عن بواعث يقع تشخيصها بصفة نصية/ لفظية أو إيحائية/ غير لفظية. يكتب أحدهم، مثلاً، أنّ ناقديه "ما "حرّكتهم إلاّ الغيرة والحسد، أو هم ممّن هوى بهم الجهل والتنطّع". أو يذهب آخر إلى نعت كل مَن انتقد قوله بأولئك "المتحاملين"، بينما ينصرف ثالث إلى الاغتراف من مفردات "الجهلة وأشباه المثقفين". ولا عجب، إذن، أن تصعد في هذه المزايدات اللفظية تعبيراتٌ فجّة مستقاة من أزمان مضت، من قبيل القول إنّ فلاناً "يهرف بما لا يعرف"، أو يأتي آخر بمصطلح أوروبي النشأة للتعبير عن الفحوى ذاتها فيصف القول الناقد بأنه "موقف دوغمائي"، وهذا كلّه لمجرّد أنّ أحدهم حاول تشغيل عقله وبادر بالمناقشة مثلاً.

 

تأتي فنون القمع الخفي للحسّ النقدي وروح التمحيص أكثر تذاكياً عندما يستعملها دعاة الحرية أنفسهم، والمنادون بتشغيل العقول والضمائر، والعاكفون على صياغة مقولات منفتحة للغاية في ظاهرها
تأتي فنون القمع الخفي للحسّ النقدي وروح التمحيص أكثر تذاكياً عندما يستعملها دعاة الحرية أنفسهم، والمنادون بتشغيل العقول والضمائر، والعاكفون على صياغة مقولات منفتحة للغاية في ظاهرها
 

ليس الضحية في هذا الأسلوب هو ناقد معيّن وحسب؛ بل النقد بالأحرى، لأنّ وطأة هذه التعبيرات المتضافرة كفيلة بإلجام المتحدِّثين المتوقّعين عموماً، وإسكات المعلِّقين المفترضين، وهي حيلة تستعمل الفتك الرمزي كي تفرض سطوة معنوية على الوجدان الجمعي والفردي، فتحرِّض، بالتالي، على تعطيل الحسّ النقدي وروح التمحيص في الأوساط المُخاطَبة.

 

قد لا يلحظ القوم أنّ الحيلة حاضرة باقتدار أيضاً في منصّات علمية وأكاديمية وفكرية وثقافية وأدبية، تضع المخالفين أو بعضهم في أقفاص الاتهام حتى قبل اشتغال المراجعات النقدية في الأذهان. يترافع أحدهم، مثلاً، في عرض رأيه في مسألة، ولا يفوته أن يقول "طبعاً؛ سيخرج علينا الآن بعض المتشنِّجين ويقولون كذا وكذا". أو يذهب آخر إلى تعبير آخر: "سأقولها، ولن أعبأ بأصحاب العقول المتحجرة (أو الأفكار المائعة)". يُراهِن هذا التصنيف الاستباقي على تشكيل تصوّر ذميم عن الناقد حتى قبل أن يباشر نقده، فيضع العراقيل في وجه أي محاولة للاشتغال النقدي، بما يساعد في حملة الإسكات والترهيب.

 

واقع الحال أنّ هذه الحيلة وأخواتها لا تعبِّر عن ثقة صاحبها بجدارة مضامينه كما لا تشي بجرأته على احتمال المناقشة وإن أعلن ترحيبه بها وأطلق دعوات المناظرة أيضا، وإنما كناية عن خشية كامنة من النقد والتمحيص أو تعبير عن رهبة مُستترة من الفحص والتدقيق.

 

ظلاميات في لبوس الاستنارة

تأتي فنون القمع الخفي للحسّ النقدي وروح التمحيص أكثر تذاكياً عندما يستعملها دعاة الحرية أنفسهم، والمنادون بتشغيل العقول والضمائر، والعاكفون على صياغة مقولات منفتحة للغاية في ظاهرها وإن استبطنت انغلاقيّاتها المتذاكية وظلاميّاتها التي تأتي في لبوس الاستنارة.

 

يبدأ الأمر، عادة، مع مصادرة العقل والوعي والضمير، في مقولات شعاراتية قد تُنزَع فضائلها ضمناً عن المخالفين في الرأي؛ وهي تقدمة مثالية للنبذ والإقصاء ولجم النقد وتعطيل المناقشة وربما علوّ المزايدات. إنّ القول بجهل الناقد وتصويره إيحائياً بأقسى النعوت هو من أساليب التنميط الرائجة، ويكفي أن يقول أحدهم مثلاً "هذا مسكين"، أو يسخر آخر من صاحب قول ناقد: "ماذا يعرف هذا؟!".

 

وقد يُصادِر أحدهم العقل والتفكير لذاته بتعبيرات إيحائية بارعة، ويرمي ناقدي فكرته بقالب تعميمي فجّ عندما يوحي بمروقهم من العقل وبنَزَقِهم المتطرف في التفكير وبتشنّجهم الأعمى في الأحكام. فإن خرج أحدهم على قومه كي يُناقش ما يُقال على الملأ؛ بات عليه ابتداءً أن يُعلن براءته من تهمة مُسبَقة بالانغلاق والتحجّر قد جُهِّزت له ولأمثاله سلفاً، وأن لا يتقاعس في تقديم مرافعات الولاء للعقل والتفكير الحرّ والضمير اليقظ، رجاء أن يُقبَل منه حقّ القول والاعتراض.

 

وتجود المرحلة على من يرغب بممارسة القمع الخفي للنقد والتمحيص والمناقشة والاعتراض، بقوائم متطاولة من المفردات المتاحة للاستعمال مثل التطرف ومكافحته، والإرهاب ونبذه، والاعتدال وتمكينه، والتسامح وتعميقه.

 

عراقيل معنوية على طريق النقد

تأتي العراقيل المعنوية المنصوبة على طريق النقد مكثّفة أحياناً، إلى درجة يكابد معها بعض الناقدين في حالات معيّنة أزماتٍ معنوية شديدة الوطأة على مشاعرهم وضمائرهم قبل البوْح بما يروْنه، وقد ينشغلون عن فكرتهم بتقديم الاعتذارات المُسبقة لجمهورهم منعاً لسوء الظنّ بهم وإساءة التأويل لقولهم. من شأن هذا الموقف الدفاعي المرتبك أن ينعكس على جودة المرافعة النقدية ومضمونها، وهذا إن اجترأ أصحابها على البوح بها أساساً.

 

يُوظِّف بعض حاملي الألقاب فنونَ الترهيب من استعمال النقد معهم، باتهام الناقدين المُفترَضين بأنهم ما صدروا في نقدهم الحاصل أو المُتوقّع إلاّ عن عقدة نقص من الافتقار إلى ألقاب مخصوصة

وإن استبدّت حالة الوصم بالمشهد، وتعاظَم التحلّق الجمعي حولها، صار النقد في عيون بعضهم ضرباً من المروق عن ثقافة الوسط وحالته الوجدانية المنشغلة بالتصفيق أو التأجيج أو التلقّف، وقد تصير الوصمة ذاتها سِمَةً من سمات الوسط يتمايز بها عن غيره، بما يُفضي إلى نبذ الناقد وإقصائه أو سعي المدموغين بالوصمة إلى الانفلات من هذا الوسط بهدوء أو بصخب.

 

تتراكم التواطأت الجمعية على إنتاج الوصمة وتضخيمها، بما يجعل البوْح بالنقد عسيراً في هذه الأوساط، وقد تُكسَر الحالةُ المغلقة بشيء من الجرأة عليها من أحدهم، أو بإرادة من مركزها أو أصحاب الحظوة فيها، وهو ما يؤكد مسؤولية النخب المؤكدة في الترشيد وكبح التشنّج في مجتمعاتها بدل أن تكون هي ذاتها مَن يسهر على إذكاء الحالة السقيمة وتأجيجها.

 

 

الرمي باتهامات نفسية

يبلغ الأمر مبلغه عند بعض النخب برمي كل من يناقش أحدهم باتهامات نفسية جسيمة، فالناس عنده لا يناقشون أو ينتقدون إلاّ "بدافع من حسد أو غيرة"، أو انطلاقاً من "إحساس بالنقص أو عقدة كامنة"، أو "شعور بالغطرسة والتعالي"، وهي تعبيرات لا تأتي بصفة لفظية وحسب؛ بل تتجاوزها إلى أساليب إيحائية متضافرة معها أو مُستقلّة عنها.

 

يُوظِّف بعض حاملي الألقاب فنونَ الترهيب من استعمال النقد معهم، باتهام الناقدين المُفترَضين بأنهم ما صدروا في نقدهم الحاصل أو المُتوقّع إلاّ عن عقدة نقص من الافتقار إلى ألقاب مخصوصة. وعلى الجبهة المقابلة يلجأ بعض مَن لا يحملون هذه الألقاب المخصوصة إلى رفع هراوةً معنوية غليظة في وجه النقد والمناقشة والتمحيص، باعتبار أنّ هذا ما جاء إلاّ اعتداداً من القائل بدرجته أو لقبه، وأنها من تعبيرات "التعالي والكِبْر" التي تصدر عن "متشبث ببرجه العاجي"، ولا ينفكّ هؤلاء في محاولة اللجم المتذاكية أن يطالبوا الناقد "بالتواضع قليلاً" أو أن يكفّ عن أن "يرى نفسه فوق الآخرين"، على أمل أن يتحلّى بالسكوت والتأييد مثل غيره في الجوقة المنخرطة في ثقافة قمع النقد. وفي الحالتين، أي الرمي بانبثاق النقد عن عقدة نقص أو منطق غطرسة؛ ثمة اشتغال جسيم على شقّ صدور الناقدين لفحص نواياهم القلبية مع رَميِهم بأحكام جزافية هدفها وصم الناقد وذم النقد والترهيب من المناقشة باستعمال أساليب الردع الإيحائي؛ بما يتخللها من فنون العنف الرمزي أحياناً.

 

ومن التراشقات المشهودة أن يتّهم حاملُ اللقبِ ناقديه بأنّ "لديهم مشكلة مع مَن يحمل الدكتوراة"، وهو ما قد يعني محاولة لإسكات من لا يحملون لقباً مخصوصاً، أي أكثرية الجمهور عملياً، وإخراجهم من حيِّز المناقشة بوضعهم في مرمى الاتهام المُحتَمل الذي عليهم التبرُّؤ منه على الملأ إن انطلقت ألسنتهم وأقلامهم وتغريداتهم بالنقد والمناقشة. وتأتي على الضفّة الأخرى لهذا التراشق محاولات لوضع الدكتور أو العالم أو الشيخ أو المختصّ في مرمى الاتهام بالتعالي إن بدر منه رأي ناقد، بما يحرِّر عريضةَ اتهامٍ له قد تُلجِمه وأقرانه عن البوح بما يرى.

 

غنيّ عن البيان أنّ مساءلة النوايا والجزم بأمرها هو من أكثر المسالك التي تستبيح مقاصد الناقدين بتأويلها وفق تحيِّزات الخائفين من النقد. ولا ريب أنّ استعمال الاتهامات النفسية هذه كفيل بأن يكبح النقد ويعطِّل حسّ التمحيص، وأن يُضعِف الموقف المعنوي للناقدين أيضاً. أما المفعول الأعمق لهذا الأسلوب الجارف فهو استثارة الشكّ بالذات في أعماق الجمهور إن تلاعبت التساؤلات المتشكِّكة برأسه، وقد يطاردها سياط التأنيب لاستتابة صاحبها معنوياً وأخلاقياً طلباً لأن يُعلِن الإذعان لثقافة قمع النقد أو أن يُستبعَد مِن وَسَطِه وجدانياً وربما وجودياً أيضاً.

 

الاغتراف من النظام الرمزي لوصم الناقدين

من عادة القمع الخفي للنقد والتمحيص أن يلجأ إلى النظام الرمزي لعالَمِه وعصره ومرحلته، أو للنظام الرمزي لأمّته ومجتمعه ووسطه المُخاطَب، فيتّخذ من مفردات منتقاة من هذا النظام سهاماً ودروعاً وذخائر، ولا ينفكّ في مسعاه هذا عن الاحتجاج بالقيَم العليا في العالم أو الأمّة أو الوسط أو المرحلة، والتذرّع بالرموز المعترف بها في أي منها.

 

هذا ما جرى، مثلاً، عندما صعدت "داعش" باستراتيجية التوحّش، فقد صارت النسبة إلى هذا التشكيل المقيت دمغةً مثالية للمخالفين من اتجاهات شتى، فراجت مصطلحات اشتقاقية من قبيل "الداعشية" و"الدعشنة"، حتى تراشق المعلِّقون وأصحاب المحابر والمغرِّدون باتهامات تنعت القابعين في الخنادق المقابلة لهم بأنهم مجرّد "دواعش". كما سنّ مناهضو التراث والتاريخ والهوية حرابهم للمطالبة باستئصال الثقافة "الداعشية" منها. وعندما خرج أفراد إلى الميدان للمجاهرة بالفطر في رمضان (2018) واستفزاز الشعب التونسي بصنيعهم في حضور وسائل الإعلام؛ لم يغِب عنهم أيضاً اتهام المجتمع الملتزم بالصيام واحترام الشعائر والمقدسات، بوصمات اغترفت من مفردات "أحادية" و"ظلامية" و"داعشية"، وتذرّعت بقيم مجيدة مثل الحرية والحقوق، وهو من ضروب استعمال القيم لضرب بعضها ببعض ضمن موازين قيمية مُختلّة.

 undefined

 
ليس المسلك جديدا على أي حال؛ فوصم الناقدين والمخالفين وإقذاعهم بالنعوت والإيحاءات المسيئة ظلّ خياراً مفضّلاً عبر التاريخ، مع سعي بعض النخب لتأجيج الحالة أحياناً بتصعيد التعبيرات وتكثيف التحلّق الجمعي حولها خدمة لمصالحهم وأهوائهم.

 

ومن ذلك ما كابده الأنبياء والمصلحون من صنوف القمع المعنوي قبل المادي، وقد تمّ الإسراف في وصمهم بأقسى ما يمكن أن يمسّهم من سوء القول والإيحاء والعمل، كأن يُنعَت النبي الذي عُرِف في قومه بالرشد والأمانة بالجنون والانتحال، وأن تُتَهم الصدِّيقة الطاهرة في شرفها وبتدنيس سيرة آلِها الكرام.

 

لقد تحرّرت عرائض القمع المعنوي لأنبياء الله تعالى من نخبة أقوامهم غالباً، ومن ذلك حملات الوصم التي استهدفت نوحاً عليه السلام الذي اجتهد أيّما اجتهاد في مخاطبة قومه عهوداً متعاقبة واستمالتهم بإحسان إلى الهداية والنجاة، فكان أن (قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الأعراف 60. وقد تفنّنت النخب في مواجهة النبي والصدّ عن سبيل الله بحجج اتهامية كما بيّن القرآن الكريم (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ، إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) المؤمنون 23 – 25. إنه مسلك النخب المتنفذة في المجتمعات إذ تؤسِّس لحملات تضيق ذرعاً بالإصلاح والترشيد، كما وقع مع هود عليه السلام مثلاً (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) الأعراف 66.

 

زمن الوصم العربي

يتعالى الشقاق والتشرذم، وتتصاعد الأزمات والتوترات، على خطوط التماس السياسية والإثنية والطائفية في العالم العربي على تنوّع مكوِّناته التي تُوضَع في مواجهة بعضها بعضاً. تُذكي هذه المرحلة من التوترات بيئة حاضنة لثقافة الاستغراق في الوصم، ضد المحسوبين على الخنادق المقابلة ابتداء، ثم يجري الإسراف في استعمال هذا الوصم بتصنيف الناقدين من شركاء الخندق ذاته ورميهم بالتبعية للخندق المقابل وانسجامهم مع أولئك المنبوذين فيه، وهو ما يحاكي ثقافة التخوين أحياناً.

 

أما التأويل التآمري للنقد فيحظى بشعبية خاصة في بعض الأوساط، خاصة إن تعلّق الأمر بمجتمعات متوتِّرة أساساً وتطفح أوساطها بالنزعات المتشنِّجة. يكفي في هذا الشأن، مثلاً، رمي القائلين بقول ناقد بأنهم "مأجورون"، أو حسبانهم على دولة خصم أو مربّع سياسي أو إثني أو طائفي منبوذ، أو إلحاقهم بالغرب من جانب؛ أو وصمهم بالانتساب إلى "كهوف الماضي" من جانب آخر.

 

وإذ تتهاون النخب مع هذه الاتهامات المعلّبة إن استهدفت خصومَها؛ فإنّ النخب ذاتها قد تكتوي بنارها يوماً ما بعد أن تصير الحالة ثقافة غامرة تُغرِق بعضاً من أصحابها بالمنطق ذاته الذي دعموه واستعملوه أو تهاوَنوا معه وتغاضَوْا عنه. فالجماهير التي وقع تسخينها ستستعمل المنطقَ الأعوج ذاته لخدمة تحيّزات اللحظة وتقلّباتها التي لا تستقيم على حال واحدة، فتدفع بعض نخب التأجيج أثماناً متأخرة، كحال الذي امتدح المقصلة فجرّوه إليها، أو أشاد بدبابة العسكر فسحقته.

 

فنون القمع الخفي للحس النقدي وروح التمحيص لا تُستعمَل دوماً بوعي كامل بمخاطرها أو حتى بتدبير مُحكَم أو بسوء نيّة. فبعضها نتاج ثقافة مجتمع أو وسط أو زمن، أو بفعل تعبئة مُسبقة وانعكاسات سلوكية

تتفاعل الحالة بشحن وعي الجمهور أو وسط مخصوص ضد نقد بعينه وتعظيم الاصطفاف في مواجهة ناقدين في مسألة مخصوصة، بتكثيف التعبيرات اللفظية والإيحائية التي تخدم الحالة، وهو ما يُغوي الجمهرة في نهاية المطاف بالكفّ عن تشغيل العقول ومحاولة التمحيص كي لا تتنزّل عليها الوصمة المرسومة في الأذهان ودرءاً للشكّ في سويّتها ومقاصدها. صحيح أنّ النقد لا يقضي بصحة فحواه ولا باستقامة قائله؛ لكنّ النقد يُقابل بالنظر والمناقشة والتمحيص والأخذ والردّ على بصيرة، بدل الاستغراق في خيارات القمع الخفي والترهيب من الإفصاح.

 

تتدهور الحالة في حملات الهجاء التي يُمسَك فيها بالنِّصال كي يتنافس أصحاب المزايدات في النحر المعنوي لضحية مقصودة. وتتسلّح الخطابات في هذه الحالة بتعبيرات القسوة ومفردات التشهير، التي قد تجد ما يقابلها من الردود من الخندق الآخر إن وُجِد.

 

وقد لا يأتي الذمّ صريحاً ومباشراً، بل يتموضع بصفة كامنة ومستترة تنضح بها المناقبية الانتقائية مثلاً، التي يحجب مُمارسوها الثناءَ عن وجوه مخصوصة ويسبغونه على غيرها، وهي حيلة متذاكية تُستعمَل في فنون القمع الخفي للآراء باقتدار أحياناً. فإنّك إن وافقتَ القائل في قوله حظيْتَ بالتكريم الذي حُرِمَه المُناقِش المنبوذ. وإن تسلّح القائل بالتأثيرات الإعلامية الجماهيرية وتحصّن بذيوع يُغدِق عليه الإعجابات في كل قول؛ فإنّ هذا كفيل بأن يؤسِّس انطباعاتٍ راسخة في فحوى المسألة أو أن يعزِّزها.

 

جدير بالانتباه أنّ فنون القمع الخفي للحس النقدي وروح التمحيص لا تُستعمَل دوماً بوعي كامل بمخاطرها أو حتى بتدبير مُحكَم أو بسوء نيّة. فبعضها نتاج ثقافة مجتمع أو وسط أو زمن، أو بفعل تعبئة مُسبقة وانعكاسات سلوكية، أو تقمّصاً لأسوة سيئة في هذا المقام تحظى بمرتبة أعلى في النسَق. ويشير هذا، تحديداً، إلى أنّ استشراء الحالة في أوساط النخب، وبعضهم رؤساء وسياسيون، وإعلاميون ومتحدثون، وعلماء وخطباء، وفناون وأدباء، وناشطون شبكيون، من مشارب شتي؛ يسنّ للجماهير العريضة مدوّنة سلوك قمعي للآراء الناقدة ولمحاولات التمحيص وفرص المناقشة، وهي مدوّنة غير مكتوبة في الألواح لكنها تفرض سلطانها على الجمهرة وقد تنصاع لمقتضياتها بإخلاص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.