شعار قسم مدونات

كيف أوهمتنا التكنولوجيا بمعرفة كل شيء؟

blogs لابتوب

يزهد الكثيرون في الشروع بالبحث عن تساؤلاتهم التي تؤرّقهم، وجلّ ما يمكن أن يقدمه في سبيل البحث عن الاجابة هو قيامه بتوجيه السؤال لمن له باعٌ في الأمر، وذلك في حال تذكّره أنه بحاجة إلى إجابة! وهذا الأمر جعل سلوك البحث ونهل المعرفة مختلفًا عن الماضي، ففي السابق كان الطالب المدرسيّ والجامعيّ على حدٍّ سواء، إذا أردا معرفة ترجمة كلمة واحدة؛ فإنهما يذهبان الى القاموس وتبدأ رحلة البحث داخل القواميس حتى يجدا الاجابة إن كانت موجودة أصلًا. سلوك البحث عن الإجابات والمعرفة، تغير منحناه إلى الأسفل بصورة سلبية في هذا الزمان، فسابقًا كان الطالب ببحثه عن الكلمة يكون قد أتقن التعامل مع القاموس والمعاجم، ويألَفُ الكتب والبحث والتنقيب والقراءة بصورة عامة. ولكن لنقارن هذا الأمر بحاضرنا وكيف يتم البحث عن الإجابة، نجد الأمر سهلًا وميسّرًا، فمن خلال إحدى مواقع الترجمة المعروفة والمشهورة، يدخل ويأتي بالإجابة خلال ثوانٍ معدودة.

السرعة في هذا الزمان سلبت منّا وقصّرت وقت جاذبية المعلومة، فالمستخدم عند تصفّحه للإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بشكلٍ خاصّ؛ يقلّب الكثير من المنشورات، فتراه يقرأ القصير منها والمائل الى النوع الترفيهي، بينما ينفر من المنشور الطويل وخاصةً إذا كان متعلّقًا بجوانب معرفية فكريّة. وهذا ما يفسّر سرّ التفاعل الواسع على الصفحات الترفيهية، بينما النضوب على الصفحات الفكريّة المعرفيّة. هذا الأمر جعل إيصال المعلومة بصورتها التفصيلية أمرًا عسيرًا، فعند طرحك لفكرتك ومعلوماتك التي تريد إيصالها، تجد بأنّك كتبت طويلًا حولها في سبيل إيضاحها وتبيينها، ولكن وبسبب قِصَر وقت جاذبية المعلومة ستجد أنّ نسبةً ليست بالقليلة لم تقرأ ما كتبت، وأفضل ما يمكن أن يصدر من هذا النوع الذي لم يقرأ هو تحيّتهم لك ومدح سريع لقلمك وما كتبته دون معرفة ما كُتِب!

ونتيجة الاضمحلال المستمر لوقت جاذبية المعلومة، ووصوله الى ثوانٍ قصيرة بحسب آخر التقديرات (4-6 ثواني)، وجدنا الكثير من الناس يقوم بحِمْيَة معرفيّة بقصد أو بدون قصد. أصبح الناس أمام الباحث والكاتب وكل من يريد إيصال شيء لهم، أصبحوا كصناديق مغلقة لا يدخلها شيء، إلا ما استحوذ على اهتمامهم ورغباتهم، وليس كل ما يهتمّ به المرء أو يرغبه يكون ضروريًّا وهامًّا في حياته. وهنا تجدر الإشارة إلى اتباع وسائل أخرى في إيصال المعلومة للأفراد، وعلى رأسها الفيديو وتقنيات التصوير والصوت، حيث الأمر أقل كلفةً للفرد، فمجرّد تشغيل فيديو سيكون أسهل من قراءة صفحة، وتحويل كتاب الى النوع السماعيّ، سيزيد من فرص انتشاره ووصول محتواه الى الآخرين.

الرغبة المعلوماتية حينما تنهش إنسانا فإنها تجعله يقرأ كل شيء حتى يعرف كل شيء، وينتهي الأمر بالمسكين أنه لا يعرف أي شيء

وبالمقابل، أصبحنا نرى نوعًا آخر من الناس -مع تقدم التكنولوجيا والوسائل في تصفح المعلومات- نوعًا يمتاز بسعة المعلومات والاطلاع، فهو يملك معرفة عامّة ومعلوماتٍ مبعثرة، ولكنّ معرفته هذه لا تمكّنه من بناء رأي ووجهة نظرٍ سليمة، وكذلك لا تصنع له نهجًا في تحكيم الأمور، فهي كالأحجار المجهّزة للبناء أو كحبّات العِقد، ولكن لا إسمنت يربط بينها ولا حبل ينتظمها في صورةٍ يمكن استخدامها والاستفادة منها. يقول المفكر ورئيس البوسنة والهرسك السابق، المرحوم علي عزّت بيجوفيتش في كتابه (هروبي إلى الحرية): "المعرفة المفرطة تخنق أحياناً الفكرة الإبداعية، يمكن للإنسان أن يمتلك المعرفة في عدة مجالات، لكن من غير تنظيم وبدون رؤيا، الكثير من المتعلمين عاشوا وماتوا بدون معرفة حقة.. كومة من المواد الجيدة بدون مخطط تبقى كومة فقط". وهذا ما حذّر منه المفكرون والباحثون، حيث وصفه بعضهم بالذئب المعلوماتي!

وقد عقّب حول هذا الموضوع بعض الكُتّاب بقولهم عن الحضارة الإسلامية كلامًا مشابهًا لذلك في غزارة الإنتاج، فقد نشطت حركة الترجمة كثيرًا في القرن الأوّل من العصور الإسلامية، حتى وصل الحال بأن يصدر الكتاب في بلدٍ ما، فتكون ترجمته حاضرةً في نفس العام وباللغة العربية في العالم الإسلامي! ولكن يشير الدكتور حسن حنفي في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب) إلى أنّ الحضارة الإسلامية بدأت تطلق إبداعها، وتضيف جديدها في القرن الثاني والثالث وما بعده، حيث تركزّت الجهود في القرن الأول على توفر المعرفة وغزارة الانتاج في هذه الفترة لردم الهوّة، الأمر الذي أوجد مادةً يهضمها الباحث والقارئ حتى يطلقَ إبداعًا جديدًا منطلقًا من حيث وصل سابقوه، ولاحقًا رأينا الإبداع في مختلف المجالات التي برعَ فيها المسلمون وتميّزوا عن غيرهم بها.

يحذّر الدكتور والمفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله من الذئاب! فهو يحذّر الباحث من ثلاثة ذئاب: ذئب المال، ذئب الشهرة، ذئب هيجل المعلوماتي! والمقصود بالذئب الأخير هو ما ذكرته آنفًا من غزارة الانتاج والسعي نحو المعلومة دون استخدامها في البناء كي لا تبقى "كومة فقط" كما وصفها بيجوفيتش. يقول الدكتور المسيري في كتابه الشهير (رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر) عن ذلك: "الرغبة المعلوماتية حينما تنهش إنسانا فإنها تجعله يقرأ كل شيء حتى يعرف كل شيء، وينتهي الأمر بالمسكين أنه لا يعرف أي شيء".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.