لقد كان لي نقاش مع شخص ما، وهو لا ينفك حديثاً وبإسهاب وبدون توقف عن سوء معاملة والده له، وما أحدثه به في صغره من ضرب وتوبيخ وإهانات، واتخاذ والده لبعض القرارات التي كانت سبباً مباشراً في تردي أوضاعهم، حتى أصبح وضعهم المادي سيء للغاية. إلى أن استرسل في الكلام عن وضعه الحالي، وأصبح يشتكي سوء حاله، وقلة شأنه، وهو للأحزان تسليم، وللأسى رُضوخ، وفي الحياة هو في سُبات، وكل ذلك من أثر أخطاء والده السابقة والذي فات. نعم، ما اقترفه هذا الأب وما سببه من مضرَّة كبيرة أضرَّت بحال الأبناء، وقد تكون المضرَّة مُتعدية إلى المشاكل النفسية والاجتماعية، وهذا أمر مؤسف وفي غاية الحزن والأسى. ولكن ألم يكن ما حدث هذا كله مكتوب عند الله عز وجل في كتابه من قبل خلق السماوات والأرض؟ ألم يكتب الله المقادير والأعمار وقسم الأرزاق، كما قال تعالى: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ".
إذاً لماذا علينا دائماً أن نشكو الأقدار، ونلعن الأزمان، ونضع المَلام على آبائنا والأمهات؟! نعم شاءت الأقدار وهو الله الذي شاء، بأن يكون هذا الأب طريقة معاملته ومستوى تفكيره لا يتعدى أكثر من قضاء يومه بأكل وشرب، جاهل التفكير في مستقبله دوناً عن مستقبل أبنائه. ولكن أصحاب العقول فيهم الحكيم وفيهم غير ذلك، فيهم العاقل وفيهم المجنون، كحالنا جميعاً في هذه الأزمان، بل في زمانهم كانوا أقل وأصعب وصولاً إلى اكتساب المعرفة للتفقه في أمور التربية وكيفية التعامل مع الغير. فما هو حالنا اليوم، لا تنقطع عنا جميع مصادر التواصل الاجتماعي، وكثُرت المؤلفات والبحوث والدراسات لتُظهر لنا أصح الأقوال والتجارب لتربية الأبناء والتعامل مع الغير، ومع ذلك كله، انظر إلى حالنا اليوم ولينظر كل في حياته العائلية اليومية، قلَّما تجد من يستطيع التعامل مع أبنائه في عصر التكنولوجيا والعولمة الذي نحن نعيش فيه، فلا هناك سيطرة على الولد، ولم نعد نستطيع أن نتكلم مع البنت! فكيف إذاً هي طريقة تعاملك ومواجهتك ما أنت مُلاقيه من أبنائك الآن؟!
أنا لا أنكر أن في زمن آبائنا لم يكن هناك الوسائل الكافية لتلقي المعلومة بالسهولة التي نحن فيها الآن، ولكن هناك حقيقة أخرى وهي كان بمقدورهم أن يجتهدوا في طلبها، بل قد كانت أصول التربية والتعامل مع الغير هي أقرب إليهم منا في زماننا هذا، وهي جميعها موجودة في كتاب الله وسنة رسوله. ورغم ذلك، الكثير من الآباء والأبناء حتى في زماننا هذا لم يتنازلوا حتى بتصفح كتاب لتفسير القرآن، أو قراءة بعض الأحاديث حتى يهتدي إلى الطريق الذي يستطيع إنقاذ أبنائه وأهله، فحال آباءنا معنا سابقاً هو نفسه حالنا اليوم مع أبنائنا. فلنتوقف قولاً وفعلاً بإيقاع اللَّوم دائما على الآباء، فذاك زمانهم وهذا زماننا الآن، وإذا لم يكن للآباء في السابق تفكير سليم، فنحن لنا العقل الذي يُمَكِّنُنا من معرفة الصواب من السقيم.
علينا أن نجتهد في تفقيه أنفسنا على كيفية التعامل مع الأبناء وغيرهم حتى لا نواجه مع أبنائنا ما واجهناه مع آبائنا من قبل. |
إن كثرة الشكوى وإيقاع اللَّوم على الذي مضى لن يُقدم ولن يُؤخر وجودنا الآن ونحن بالغين عاقلين قادرين غير عاجزين على أن نُصَوِّب ما قد أتلفه آباءنا من قبل. علينا أن نؤمن أن كل ما كان وما سيكون ما هو إلا في كتاب محفوظ، وأن أمر الله فيه من الخير ما قد نجهله، كما قال تعالى: "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". علينا أولاً التوكل على خالق الأكوان، وأن نسعى ونجتهد ونأخذ بالأسباب، ونَدع الرزق والتوفيق بيد الله. علينا أن نجتهد في تفقيه أنفسنا على كيفية التعامل مع الأبناء وغيرهم حتى لا نواجه مع أبنائنا ما واجهناه مع آبائنا من قبل. علينا تغيير هذا الحال إلى ما هو أنسب لنا، ولنجعل أملنا بالله كبير، ولنربط قلوبنا بحبه والإيمان بأقداره، والتسليم بما كتبه لنا من ضراء أو سراء، كما جاء في حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (عجِبْتُ لِلمُؤمِنِ لا يقضي اللهُ له شيئًا إلَّا كان خيرًا له).لنتوقف عن الشكوى والأنين، ولنُوجِّه دُعاءنا إلى الرَّب العظيم، ولنعمل على تحويل الكثير مما واجهنا من صعاب وأحزان، إلى قوة نشحن فيها قُوانا الداخلية الضَّامرة فنحولها إلى قُوى فعَّالة تساعدنا على شقِّ طريقنا إلى الأعالي، نستغل بها الفرص ونُذلِّل بها العقبات، ليكون النجاح بُغْيتنا، والفشل نستغله لمصلحتنا، وهكذا نكون قد خرجنا من ظلمة إلى نور، ومن المَلام إلى الاطمئنان، ومن التعاسة والأحزان إلى السعادة والعيش في سلام. علينا بقراءة سيرة ممن كسروا قيود الانهزامية والرُّضوخ لظروف صعبة كابدوها ليحققوا العظمة والوصول إلى ما لم يصله الآخرون، ومنهم الشيخ أحمد ديدات، الشيخ الألباني، مصطفى الرافعي وأبو أعلى المودودي. وغيرهم أمثال بيل غيتس، أوبرا وينفري، ستيف جوبز ومالكوم إكس.
كلمة أقولها للآباء والأمهات، اتقوا الله في أنفسكم وأبنائكم، فهم فلذة أكبادكم وجوهر سعادتكم، وهم ما اجتهدتم وتمنَّيتم ليكونوا لكم نوراً وسعادة، تتبادلون معهم مشاعر الحب والحنان، فتكونوا لهم ذخراً وعوناً في الصغر، ويكونوا لكم سَنَدًا ورحمة في الكِبر. إن سوء معاملتكم لهم سوف يَرْتدَّ عليكم لا مَحالة، فسوف تمْتهِنون الشكوى والتَّأفُّف، وتشُنُّوا عليهم حملة لتشويه صورتهم أمام القريب والغريب، بسبب سوء حالهم وطريقة معاملتهم لكم، وعدم احترامهم وارتفاع أصواتهم في وجوهكم، وما كان ذلك إلا سبباً اقترفته أيديكم. فإذا أحسنتم لهم أحسنوا لكم، وإذا أسأتم لهم عَقُّوا بكم، قال تعالى: "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ الا الاحسان" وقد يصل الأمر إلى الإهانة بالسِّباب والضرب، وفي النهاية بيت العجزة مأوى لكم. هل تزوجتم لكي تنجبوا وتُطبِّقوا سياسات تعذيب، فتُولِّدوا الأحزان والكآبة والخوف لأعز الناس لكم؟! لقد خلق الله عباده فأحبهم وكان معهم في السراء والضراء حتى زادوا إيماناً وتقرُّباً، ومحبة وطمأنينة، وصفاءً وتقرُّبًا، فينالوا أرقى مكانة، رؤية خالقهم والشرب من يد رسولهم. فكونوا كما جاء في كتابه وسنة نبيه، واتبعوا المنهج الرباني في خلق عباده والبقاء معهم، لتحظوا بحسن الصُّحبة وتنالوا المحبة والرَّأفة، وتواصل حَسَن وبر وتقوى. ارحموهم واستغلوا وقوفكم على الثَّرى، ليكونوا معكم وأنتم تحت الأرض وعلى وجوهكم الثَّرى، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
وإذا كنتم أيها الآباء والأمهات قد تأثَّرتم سلبًا وأنتم تحت ظل آبائكم، واكتسبتم منهم الطبائع والعادات، فلا تُورِّثوها لمن تحبون وتعشقون، وقِفوها عندكم وأذِيبوها في كأس الماضي، لِتُحَسِّنوا وتُهَذِّبوا أخلاق نسلكم فَيَدْعون لكم. كونوا معهم وادعوا لهم ليكونوا قُرَّة عين لكم، بارين غير عاقِّين، قريبين غير بعيدين، رحيمين غير ظالمين، وإلا فالموت قريب، والحساب ليس ببعيد، والمواجهة مع رب العباد وتقديم الكتاب هو الوعيد، على ما اقترفت أيدي الجميع من سوء معاملة للأبناء وغيرهم العبيد، فلا الندامة وقتها سوف تكون شفيع، ولا الرجوع إلى الحياة هو من المنى والأحلام موجود. وللأبناء الكلمة الخاتمة، وهي مختصرة وافية كافية، مهما كان وما سيكون من آبائنا وأمهاتنا علينا أن نضع أمامنا قوله تعالى أمام أعيننا: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.