منذ نعومة أظفاري كنت أحب المدرسة، أذكر في الصف الأول الابتدائي أنهم أخبروني أن فصلي هو الفصل النموذجي في المدرسة – ولم أكن دخلت روضة أطفال أبداً – كلّ شيء كان حلواً، الدروس التي كنا نغنيها، قطع الحلوى التي كنا نتعلم عليها أولى العمليات الحسابية، وعقولنا الصغيرة. أو قُل بطوننا الصغيرة تتطلع إلى وقت توزيع الحلوى بعد انتهاء الدرس. المعلِّمة التي تنادينا بماما، وكثير من المغريات لطفلة تنتظم على مقعد دراسي للمرة الأولى في حياتها.
كبرْت رويداً رويداً ونموذج المدرسة الحلوة يزداد صرامة، صحيحٌ أن حب المدرسة كان فعلاً قد تجذر، إلا أنني بدأت أعي أن هناك عصا صارمة لا ترحم التعتعة في الإجابة، ومعلمة أول وآخر وكلّ ما يهمها الانتهاء من المنهاج. كبرت أكثر لأصبح محاطة بصورة نمطية منفرة للمدرسة، وأنا في بلد هو الأعلى نسبة في التعليم! صورة المناهج المتكدسة والدوام الطويل والاختبارات الصارمة، قانون البقاء والعزة للأصلح والأكثر (علامات). نُطلّ أحياناً برؤوسنا قليلاً من بين ثنايا تلك الصورة القاتمة، نُطل على تجارب الغير من الغرب أو أقصى الشرق أو في أطراف الكوكب لنهمهم بعبارات التقدير والمديح، ثم نلملم أثوابنا ونعود لمدارسنا. ورغم كل التجارب النظرية والقائمة التي تثبت الأخطاء التربوية والتعليمية في المدرسة من نواحٍ متفرقة، إلا أننا نادراً ما نسمع عن تجارب واعدة تصب في هذا الاتجاه.
أينشتاين كان متأخراً دائماً في الرياضيات والعلوم. ويُذكر أنه رسب في الرياضيات ثلاث سنوات وأعده مدرسوه بطيء التعلم! |
رغم أننا في عالم التقنية المتسارع، عالم الافتراضيات والمحاكاة والذكاءات الصناعية، إلا أننا لانزال نكدس في العقول حشو المعلومات المجرد. أؤمن بشدة بمبدأ نظرية السمكة الخاسرة في سباقها مع القرد في التنافس على تسلق الشجرة. فهذا الطالب المتأخر دراسياً في فصل يتكدس فيه عدد من الطلاب تختلف عقولهم وتجاربهم وظروفهم، قد يكون نابغة في مجالات حرفية أو مهنية أو حتى تخيلية. وهذا المدرّس الذي يسيّر العملية التعليمية ويقودها على مدار العام، يخرج في النهاية بأطفال يحملون انطباع مدرّسهم عنهم كقناعة لديهم عن شخصياتهم ويحكمون على أنفسهم بعيني معلميهم. هذا المدرّس كأن من الممكن أن يكون مشاركاً فاعلاً وموجهاً في عملية تعلمية جماعية. وهذا اليوم للطالب الذي يكاد يُختصر بين المدرسة والنوم وسويعات قليلة لنشاط خارجي نظراً للوظائف البيتية الكثيرة. كأن من الممكن أن يكون مستكشفاً للمجال الذي يحب أن يتعلم فيه، لتتحول هواياته ونشاطاته وحركته مقولبة ضمن التعلم في حياته ككُل، ولا تتوقف بانتهاء المراحل الدراسية المعهودة.
كم فاجأنا التاريخ بشخصيات كانت فاشلة دراسياً ونبغت في اتجاهات عديدة أبهرت العالم، والسؤال هنا، كم من الملايين الذين طُمسوا في طيات التاريخ لأنه قُتلت مهاراتهم قبل أن تنضج على يد أشخاص هنا أو هناك. كان إديسون الشاب شارد الذهن في كثير من الأحيان بالمدرسة، حيث وصفه أستاذه بأنه (فاسد) وغير قابل للتعلم. وألبرت أينشتاين (صاحب النظرية النسبية) والذي يُعتقَد أن معدل ذكاءه على مقياس معدل الذكاء IQ هو 160-190، أينشتاين كان متأخراً دائماً في الرياضيات والعلوم. ويُذكر أنه رسب في الرياضيات ثلاث سنوات وأعده مدرسوه بطيء التعلم. أما لويس باستير مكتشف الجراثيم وطريقة البسترة، فكان دائم الشرود والسرحان لدرجة أنه صنف كمريض بالذهان.
هؤلاء جميعاً عرفناهم كنوابغ نبذتهم المدارس وصنفتهم بتصنيفاتها، والتي كان من الممكن جداً أن تقصيهم عن طريق الابداع والابتكار وتحرم البشرية من عقولهم. ماذا عن كثير من أقرانهم ممن لم يجدوا أمهات داعمة في طريقهم، أو لم يحصلوا على فرص تخفف من التأثير السلبي للمدارس التقليدية على عقولهم. أتمنى أن أرى في وطني المدرسة التي حلمت بها لنفسي أولاً ثم لأطفالي وهذا الجيل. حيث المدرسة متعة من المتع التي يبحث عنها الطفل ويتحرق شوقاً لها، والحياة ماهي إلا مراحل متتالية لمدرسة كل منهم الخاصة. الجيل حيث الطفل الذي شارك ومارس وأخطأ بدل المرة مرات، وتعلم أن لا هيبة من مسألة الحساب خوف الفشل، وليس من بأس من البدء بمشروع قد لا يكون خبيراً بعناصره فيبحث ويسأل، وليس الكل عالماً ليكون السؤال عما يجهل هو نقص. الجيل الذي ذاق حلاوة المعرفة ولذة الاستكشاف، فهل يا ترى سيكون؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.