في ظل الواقع الذي نعيشه، أصبح التذمر اليومي من كل شيء، أمراً مألوفاً وشائعاً بين السواد الأعظم من الناس، فنترنح بين حسرة على ما فات، وغضب مما نحن عليه في الفترة الآنية، انتهاء بفقدان الأمل في غد أفضل. فقد كثُر الحديث عن انعدام الأمل في المستقبل، حتى ترسّخت هذه الفكرة في الحسّ العام وأصبحت أمراً بديهياً، فلا أمل ولا رجاء، والتشاؤم عمّ الأرجاء. وقد يبدو الأمر مقبولاً وعادياً، فكيف سيتطلع الإنسان للغد بروح مشرقة وهو الذي لا يرى مؤشرا يُبشر بذلك؟ وكيف سيكون للتفاؤل معنى أمام انعدام الثقة في المحيط؟ بل حتى في النّفس؟!
حتى تلك الخطب التحفيزية ومحاضرات التنمية البشرية ما عادت تجدي نفعاً – إن سلمنا بأنها كانت نافعة يوماً ما – حيث تُشعرنا بعدم احترامها لذكائنا، بتلك الطرق السطحية والساذجة في التناول والإلقاء، حيث ندرك أن أغلبها لا يعدو أن يكون أحلاماً – أوهاماً – سرعان ما تندثر عند الاصطدام بالواقع. الكلمات التشجيعية مرغوب فيها، لكن متى كانت صادرة عن صدق، ومتى احترمت عقل المتلقي، وأن تكون من صديق صدوق صادق فذاك، مما يجعل للكلمة المحفِّزة والتشجيع قدرة على التأثير الإيجابي، كما أنّ همسة من مُحِبّ صادق قد ترفعك من واقعك الكئيب إلى عِنان السماء. فالتفاؤل ينبغي أن يقوم على دعائم ثابتة، وما عدا ذلك لن يكون سوى الوجه الآخر لليأس. وبالرجوع إلى أمر التشاؤم، فليس المتشائم بالضرورة ذلك البئيس المحبَط، الذي يُثبّط أحلام الغير، بل قد يكون جرس إنذار يقدم مؤشرات لما ستكون عليه الأمور، خاصة إن كان صادقاً لم ينجرف وراء التطبيل للأوهام الوردية، ولم يُسوِّق للتفاؤل الخادع. فليس من الأصالة ولا الذكاء السّير مع ثقافة (العام زين، أي كل أن كل شيء على ما يرام)، في أرض مسلوبة ومنهوكة تدفع بأبنائها دفعا للتفكير فيما وراء الضفة المقابلة، تحت الشعار المقتبس من النص القرآني: "رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ" كما أنّ السباحة في عالم العَتمة يُعطينا رؤية شمولية عنها، فالمنظار الأسود الذي نرى من خلاله الحياة، يجعلنا دائمي التطلع للأفضل، ويُكسبنا دربة على المواجهة، فتُصبح عتمة مضيئة، وإن كانت في أعيننا فقط.
المواصلة والاستمرار في البحث عن الأمل هو انتصار في حد ذاته، انتصار على الروح الانهزامية التي تعيق أي تقدم، وتمنع من البحث عن الذات، والشعور بالرضا |
الأفق ضبابي، والظلم طاغ، والكل ينتظر غودو الخاص به، ولسان حال الكثيرين بات يردد الجملة التي ذاعت وانتشرت: أي ذنب اقترفناه ليكون ربيع عمرنا متزامناً مع خريف الوطن؟! إذن فهو زمن الخوف والتفكير في القادم الأسوأ، حتى أنّ أشد المتفائلين بعالم مثالي لا يخلو تفكيرهم بين الفينة والأخرى من فترات الشك في حسن سَيْر حياتهم، رغم وجود ملامح لحياة سعيدة بفضل التقدم الحاصل هنا وهناك، وذلك ما عبّر عنه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في كتابه (الأزمنة السائلة) حيث اعتبر أنّ التقدم لا يعدو أن يكون مطاردة اليوتوبيات لا تحقيقها. (ص 111) كل ذلك التعب والإرهاق لا ينبغي أن يكسر إرادتنا، ويودي بنا لمستنقع من الاكتئاب والعبثية، فلا ينبغي لهذا التذمر أن يُدمّر ذواتنا، ويعمي أبصارنا عن النّعم التي نتمتع بها، فنغفل عن شكر الله عز وجل وهو القائل: "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ "(النحل، 18)، فالتذمر من واقعنا المعيش، مقبول متى كان تنفيساً مؤقتاً لمشاعر الغضب والإحباط، ومتى صاحبه الرضا بقضاء الله وقدره. وقد كان الدكتور مصطفى محمود رحمه الله أشار في مقالة له بعنوان (ساخطون بلا مناقشة) إلى صنف من البشر اتخذ من السخط والرفض والتذمر موضة، فأصبح يحتج على كل شيء، وبسبب أو بدونه. وهذا مما لا ينبغي سلكه أسلوباً في الحياة، بل يجب التسلح بالإيمان، والتحلي بالواقعية المعززة بالأمل. يقول الأديب الأوروغوياني (إدواردو غاليانو):
اليُوتُوبْيَا في الأفقِ،
أدْنُو خطْوَتَيْنِ،
فَتَبْتَعِدُ هِيَ خطْوَتَيْنِ.
أمْشِي عَشْرَ خطوَاتٍ فَيَرْكُضُ الأفقُ عَشْرَ
خطواتٍ نَحْوَ الأقَاصِي.
مَهْمَا مَشَيْتُ،
فَلَنْ ألْحَقَ بِهَا أبَداً.
ما الَّذِي تُفِيدُهُ اليُوتُوبْيَا؟
لأولَئِكَ تُفِيدُ: في المَشْي
تحدث غاليانو هنا عن (اليوتوبيا) واعتبرها غاية لا تدرك، وجعل فائدتها في فعل (المشي) نحوها، وتمنّي بلوغها. وكلمة (المشي) تحمل من الدلالات ما يستدعي الوقوف عندها وتأملها بعمق، فالمواصلة والاستمرار في البحث عن الأمل هو انتصار في حد ذاته، انتصار على الروح الانهزامية التي تعيق أي تقدم، وتمنع من البحث عن الذات، والشعور بالرضا والتطلع للأفق المنتظر. وفي سياق متصل، أعود لكتاب زيجمونت باومان السالف الذكر لأقتبس منه قوله: "فلنستمر في البحث عن ذواتنا الحقيقية، فيا لها من متعة رائعة، بشرط ألا نعثر على الذات الحقيقية أبدا، فلو عُثر عليها، ستنتهي المتعة". (ص 120) هنا يؤكد على أن الاستمرار في البحث (المشي) هو ما يضفي على هذه الحياة معنى ومتعة، لكن الجملة الأخيرة التي يشترط فيها عدم الوصول للنتيجة حتى لا تنتهي المتعة، أجدها قريبة من فكرة (الحبة الحمراء) وهي أيقونة ثقافية مقتبسة من فيلم المصفوفة (The Matrix)، والذي يعني اختيارها عيش الواقع القاسي ومعانقة الحقيقة المؤلمة، في مقابل (الحبة الزرقاء) التي ترمز للبقاء في الوهم، أي الجهل المُريح. وخلاصة القول، ليست هذه الخربشات سوى فضفضة نفسيّة تصف وتحلل، وتعرضُ بعضاً مما وقر في النّفس من تصورات وأفكار. الأيام تُعلمنا الكثير، وتدفعنا كل يوم إلى التفكير، فلا بد من إكمال الحياة، بالتوكل على الله، ثم الإقبال على المشي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.