شعار قسم مدونات

يوم مشمس في كوالالمبور

blog - malaysia

هذه المدينة بلا أرصفة.. بلا أزقة.. بلا مشردين.. بلا موسيقى، الحياة فيها أشبه بعذاب القبر المختلق، الفقراء الذين يمشون المسافات الطويلة في كل مدن الدنيا لا طرق يمرون فيها هنا، فقط الطرق السريعة وسكك القطارات وفضاء شبه مغلق على الحمام وعصافير الغابات. بارات الليل وزوايا جماعات الجنس الثالث وأوكار المساج وغرف عاهرات الخمسة نجوم كلها لا تعني أن حياة طبيعية في هذه المدينة، كل شيء مختلف مقرف ودنيء، لا شيء طبيعي سوى الورل، والسنجاب، وبعض الصفصاف، وبعوض لا يتوقف عن مص الدم.

   

وعلى عادتهم يهرب الناس هنا إلى الأطراف والكمبودج -القرى- بحثاً عن وميض نجمة عالقة في السماء، عن مداعبة هواء عذب قادم من بعيد، عن رؤية قروي يبيع الموز المقلي بالزيت، ورائحة بخور يتسلل من معبد بوذا، وصوت درويش ينادي حي على الصلاة. لا حياة في مدن الصماء التي لا تسمع متعجرف قد قرأ عشرة ألاف كتاب في الحب والشعر والفلسفة وتناسخ الأرواح والأذكار والسياسة وشموس المعارف وعلوم البحار وصناعة الاشرعة.. حقاً هذه الأبراج المرتفعة لا تؤمن بالشعر كما تؤمن بشفرة مستر كارد.

  

شمسك المجنونة حنونة في الصباح، لعينة في الضحى، وقاتلة عند المنتصف، وأمطارك مباغتة كالقدر، أنهارك على قدر هدوئها إلا أنها مزيفة، لا نهر بدون عشاق يتناولون اللب وعصير القصب ويتبادلون القبل

لا روائح زكية صادرة عن مطابخ هذه المدينة، وبشاعة رائحة المطبخ الصيني تطردك كما تفعل رائحة الديزل بالبعوض، أغلقوا النوافذ فجارتنا ذات الشعر المتسلسل والسراويل الأقصر في العالم بدأت تمارس هوايتها في قلي السحالي المجففة مع الوزف- سمك مجفف حجمه صغير – إنها تصنع السم لنا والترياق لأولادها الثلاثة، إنها تعد طبخة "الزاحوط الماحوط" الموجودة في كتاب الكاهنة الشريرة.

  

الضجيج وأضواء السيارات وعوادم الغاز هي مجمل مكونات اللوحة العالقة على جدار قديم في هذه المدينة الصماء، ولمشاهدتها بكامل حزنها سيكون الأنسب أن يكون توقيت زيارتها عند تعامد الشمس في كبد السماء مسلطة اشعتها على فقراء الهنود والعمال البنجالية وعلى طرقها الملتوية التي لا تنتهي أبداً.

      

هنا لا أحد يقول الشعر، لكن الجميع يتناولون الأكل المحلى بالسكر حتى "الغنمي" يضاف إليه "الجولا جولا"، يذكرني هذا الطعم بفتة الخبز بالسمن والحليب والسكر عندما كنت طفلا "ملثما" لا أحب الأكل وأمي تحليه بالسكر كي استسيغه، أخبرتها مراراً أنه غير شهي ولكنها كانت تحسبني أمارس الدلع كما عودتني جدتي.

     

يا محطة الترانزيت الأطول في العالم يشتقاك كل من غادرك، لكونك تمنحي القادم شيئا لا يوصف بالإمكان تقريبه لنوع من الترحاب الغريب كقولهم" ارحبي يا جنازة"، تظلين عالقة في الذاكرة لا يحتويك نص ولا يصفك كتاب ولا تسعك رواية، يا متناقضة المعاني وموسمية الغزل ولحظية المطر. أعلم أنك لست لي فلست قرطبة بن أبي عامر، ولا رائحة فيك من أرض المعافر، أحببتك نعم، لكنه كحب عابر لتفاصيل امرأة جميلة تمر من شارع بوكيت بنتانج -العرب – وتلتفت خلفها خشية من لصوص الحقائب.

      

شمسك المجنونة حنونة في الصباح، لعينة في الضحى، وقاتلة عند المنتصف، وأمطارك مباغتة كالقدر، أنهارك على قدر هدوئها إلا أنها مزيفة، لا نهر بدون عشاق يتناولون اللب وعصير القصب ويتبادلون القبل، النهر كثير الأسماك عديم الأزهار والقصائد ليس سوى صورة مرسومة مهما بدت ثلاثية الأبعاد واضحة المعالم إلا أنها عديمة الرائحة.  مقاهيك الأنيقة مزعجة، وكراسيها قصيرة السيقان ولم تصنع لواحد مثلي أتى من بلاد قوم عاد الذين أضاعوا إرم فتاهوا في كل بلدان العالم، كل ابتسامات نادلات المقاهي الجميلات المرحبات بالقادمين لا تساوي لحظة هدوء يبحث عنها صعلوك متصوف يجول في الأرجاء منذ عقد من الزمان.

  

باعة الفاكهة غير جديرين بانتباه الكواعب من النساء، لا يجيدون التعامل مع البرتقال والتفاح المستورد، كما لا يجيدون الطبطبة على القرع والبطيخ، يبيعون الفاكهة على طريقة باعة أدوات الكهرباء كل شيء يباع بسعره المحدد سلفاً ولا “مراجلة" ولا أخذ ورد، متعة البيع والشراء غير متوفرة في هذه الأسواق كما أن الفواكه الطرية بلا رائحة، ما عدى الدريان ملك الفاكهة والذي تشبه رائحته محركات الديزل.

       

لكنني أحببت فيك المساجد، والسماع لكل أذكار تعقب الصلوات الخمس، يتجلى فيك منهج أهل الروح بشدة، لابد أن صوفياً عظيماً قد خط ملامح عشقه هنا ذات زمن، أنت ككل مدن الحرير الممتدة من بيزنطة مروراً بعدن حتى بكين عرفت الوحي في العقد الثاني للهجرة، ولذا إيمانك له طعم لم تغيره الماديات والأبراج العملاقة، يا حضرات أولياء الله من الجن ربما أجد إجابات عندكم عن روحانيات مساجد نيجارا في الوسط والحسنة والإصلاح على الأطراف، وفي أغلب الحارات التي سكنت بالقرب منها.

     

اعذريني يا كوالالمبور فأنا لا أجيد التفريق بينك وبين سيلانجور، اعذري هذا القروي القادم من أطراف إرم وأحياء برك الغماد في المعافر الذي لا يجيد معرفة الاتجاهات الأربعة إذا لم يمشي على أقدامه في كل الجهات، ووسائل النقل شوشت خارطته. أعدك يا قلب العالم أن أسجل كلما شاهدته في فصول يومك المشمس لاحقاً يا كوالالمبور وما هذا الا بعضاً من سرد لم ينته، ولن اتحامل عليك كما في هذا النص الذي جاء وأنا أنظر بعين الغريب الممتلئ بالحزن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.