شعار قسم مدونات

من شابه أباه فقد ظلم!

blogs الأب وأبنه

الحقيقة أنه ليس هناك على الإطلاق أعقد من علاقة البشر ببعضهم، وكلما اقتربت علاقتهم اشتدت تعقيداً، ولا أرى أجمل ولا أروع من ملحمة أوديب الخالدة في وجدان الميثولوجيا، لكن وعلى الرغم من شهرتها التي جعلتها تنطق وتحكي بجميع لغات العالم، على قدر ما يحزنني الفهم الضيق البسيط لمعانيها، ورقيها الفلسفي. ربما قد يؤيدني البعض وربما سيكتفي البعض الآخر بوصفها بالدراما التاريخية، لكن الشيء الذي لا يقبل شك أنها تحمل في طياتها أسرار تلك العلاقة عميقة الأثر على الإنسانية التي تسمى أبوه. لم يكن صراع أوديب منذ البداية مع القدر وسخريته، أو كما تقر الأساطير بقوة القدر ليس في تحطيم المتحدين فقط بل من جعلهم عبرة خالدة للأزمان، بل الصراع منذ البداية كان بأيدي البشر أنفسهم، لم يأمر القدر بصلب أوديب وقتلة بل اباه من فعل، لم يأمر القدر بتغريب أوديب والحياة بذكريات مشوهه بل أباه من فعل، ولم يأمر القدر أوديب أن يقتل أباه ويتزوج أمه بل كانت ما جناه أباه.

 

أحببت أن أوضح في البداية أن حتى الأساطير الخالدة قد تجد أكثر من تقويل حسب القول القائل بأن لكل قصة وجهان، لذا فقط تكون الحكمة ليست في قوة القدر بل في قدرة الإنسان على تحطيم ذاته وكل من يقترب منه. من المهم ايضاً عزيزي القارئ أن اخبرك بأن القصص في الأساس تبني على القواعد الشاذة، اقرارًا وإبرازًا لها حتى لا يختلط الأمر بعد ذلك. يقول أحد الرحالة، بعد أن قد زار بلداناً وشعوباً وعدد من القارات، انه اكتشف سجية محددة اجتمعت عند البشر في كل الأماكن التي زارها، فيقال "إن لدى البشر في كل مكان نزعة نحو الكسل".  ربما وصفه البشر بالكسل، قد يراه البعض غريباً بعض الشيء، وربما يقول آخرون أن صفة الخوف هي الأدق، لكنه يكمل فيقول إن الإنسان بطبيعته يبحث عن ملجئ من خوفه في التشبث بعاداته وتقاليده، لكن لا يمكن لشخص أن يفسر خوفه من جاره او قريبه، إذا تعلق الأمر بخروجه عن العادات. ذلك ما يدعونا إلى السؤال؛ من قال ان لابد أن يشبه الابن أباه؟ ولما سيكون ظالم أن لم يفعل؟ ولما كتب على البنت أن تشبه أمها؟ ومن قرر في الأساس أن تتحول حياة البشر إلى مصانع؟

 

وربما يظن البعض أن الحديث عن العلاقات الإنسانية، بعادتها وتقاليدها، قد نال أكثر مما يستحق من الحديث فيغلب عليه نتيجته المتوقعة دائماً؛ كجرح قديم بين جيل الأبناء والآباء لا ينتهي، لكن أي نقاش حوله سينتهي بنظرة يأس وإحباط من الأبناء ونظره متحدية ربما قد تتطاير منها الشرار من الاباء. في الحقيقة لا أحد يحبذ الخوض في ذلك النقاش، حتى لا يبدأ الجميع في تصنيفك (بحالة شاذة) أما داخل الأسرة أو حتى بشكل موسع في الدوائر الاجتماعية.

 

زواج ثم تربية، فأبناء اليوم أباء الغد وأباء الغد هم أباء المستقبل، وهكذا يترابط الأفراد بالمجتمعات بالحياة في شكل خيوط عنكبوتية، يبني فيها المستقبل على ما تم بنائه من مئات الأعوام

فحتى ذلك الخوف المسيطر على الجميع لا يمكن القول بأنه له سبب، فالغريب في مجتمعاتنا أنها بنيت على عادات قديمة قدم المكان، فلا أحد يعرف من اخترع تلك العادات والتقاليد، أو حتى لما لازال الناس يهتمون بها كل ذلك الاهتمام، وتبني عليها المستقبل. الحقيقة ربما قد تكون مزعجة بعض الشيء، إن لم تكن كارثية في مجملها، فإذا حاول شخص أن يعود لمنبع ذلك الخلل المدمر، سيجد نفسه يتساءل متى بدأ؟ ومن أنشئه؟ وكيف استمر؟ سيجد نفسه قد وضع يده على أول الطريق، فإجابة السؤال الأول والثاني مستحيلة، لكن إذا حاولت أن تسأل نفسك الآن وأنت تقرأ كيف استمرت؟ ستجد نفسك تقول، ورِّثَت.

 

 حين نرى تلك المسوخ التي لم تأخذ من الإنسانية سوى أجسادها، لم يخلقوا هكذا، هم كانوا أطفال في البداية، حين نصب آبائهم أنفسهم ملائكة حراس، ولكن عندما يبدأ الطفل في النضوج حتى يتحول الاباء إلى قادة عسكريين، يفرضون قوانين جبرية تحت شعار "من أتى بقوت يومك ملكك"، أو كما يقال هذا ما وجدنا عليه ابائنا. فكأن فكرتهم عن إنجاب الأبناء وتربيتهم ليس لهدف سوى أن يصبحوا مواطنين في نهاية المطاف، فلا يدرك بأي حال من الأحول الاباء ما يصنعوه بتلك العلاقة الاستبدادية، لا يعرف كيف ستتحول حياة أبنائهم إلى حياة بائسه بلا معنى، انفصلت فيها أرواحهم وقراراتهم عن أجسادهم، مجرد أشخاص يجمعهم الفراغ بداخلهم لا يفعلوا شيء سوى الالتفات يميناً ويساراً، خائفين ولا يدرون ما يخيفهم، يظهرون كقشرة سميكة قوية لكنها من الداخل فارغة.

 

إذا أردنا أن نعود إلى أصل تلك المشكلة الازلية، سنجد أنفسنا أمام إحدى أقدم الأحجيات عبثاً، وتجد نفسك تقول البيضة أم الدجاجة؟ لكن دعني أسهل عليك الحل، هما الاثنان، وكذلك إن أردنا أن نحدد من أين تستمد تلك المعضلة الإنسانية قوتها، بالتربية أم الزواج، ستجد أنهما الاثنين. هي العلاقة الأهم في حياة البشر بلا منازع بل أساس تواجد الجنس البشري حتى الآن، الخلل بدأ من هنا، زواج ثم تربية، فأبناء اليوم أباء الغد وأباء الغد هم أباء المستقبل، وهكذا يترابط الأفراد بالمجتمعات بالحياة في شكل خيوط عنكبوتية، يبني فيها المستقبل على ما تم بنائه من مئات الأعوام.

 

فلا تتعجب إذاً من كثرة الحديث حول تلك العلاقة، فلم يخلو عصر من العصور إلا وقد هاجم المفكرين تلك العادات، إلا أنها في النهاية كانت تنتصر، فحتى وإن كان ندائهم محدد وممنهج وشامل لكل العيوب الواجب تغيرها، إلا أنها بقيت تلك الموروثات وخسر المفكرون رهانهم على البشر. ذلك السؤال بالتحديد ما شغلني، فلم أهتم بنقد البشر ومجتمعاتهم الصلبة، أو حتى البكاء ورثاء المفكرين الذين راحت حياتهم سدى، لكن تساءلت لماذا يميل البشر دائماً إلى عدم الانصات؟ فما وجدت إلا وصف الرحالة للبشر؛ وميلهم للكسل، ففي العادة يستسهل الإنسان الراحة على خوض أي مغامرة، ويرتضي بالسير خلف القطيع حتى وإن كان يدرك أنهم على خطأ، على أن يسير مع القلة النادرة صاحبة الحق. أما التزام البشر بقوانين لم توضع لهم، ولم يدركوا في يوماً من وضعها، تأكد أن البشر كسالى أكثر مما هم خائفون، وخوفهم الأكبر هو كسلهم من تحمل الأعباء التي تحملها عليهم الصدق والصراحة. فالمفكر العظيم (نيتشه) حين يمقت البشر، فإنه يمقت كسلهم، فنتيجة لكسلهم يبدو البشر جميعاً كمنتجات مصنع، أشياء، مجرد أشياء عديمة الأهمية وغير جديرة بالاقتران، لذا فالنداء دائماً ما كان يوجه للآباء أكثر ما يوجه للأبناء، فما يزرعه الاباء يحصده أبنائهم، أو كما قال الشاعر "هذا جناه أبي عليَّ، وما جنيت على أحد".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.