لم يتورع وزير الإعلام الكويتي الأسبق، سامي عبد اللطيف النصف، عن إنتاج خطاب تاريخي تدليسي يُحَقّر ويقزم التاريخ الفلسطيني، ويعزز هيمنة الرواية “التوراتية” و”الصهيونية” عليه، ويجمل الوجه القبيح للعدو الصهيوني. وقد سبق أن اطلقنا على من ينتج هذا الخطاب بـ”المثقف المثقوب”. فقد روّج النصف، خلال لقاء متلفز، للرواية التوراتية بالقول: “القرآن ذكر بني إسرائيل وأرض إسرائيل واليهود يعيشون عليها منذ آلاف السنين”. أقوال النصف هذه تدل على الجهل بالنص القرآني، سواء كان جهلاً حقيقياً أم مصطنعاً، بريئاً أم ذا مرام، فالمطلع ــ ولو قليلاً ــ على آيات القرآن الكريم يجد التمييز الواضح بين بني إسرائيل من جهة واليهود من جهة أخرى.
فقد وردت لفظة “اليهود” معرفة في العديد من السور المدنية [سورة البقرة (الآيات 113، 120) ـ سورة المائدة (الآيات 18، 51، 64، 82) ــ سورة التوبة (الآية 30) ــ سورة أل عمران (الآية 67) ]، فجميع هذه الآيات أشارت إلى إدانة اليهود إدانة مطلقة. بينما نظر القرآن بإيجابية إلى “بني إسرائيل” [سورة البقرة (الآية 47)]. هنا يتضح لكل ذي علم، أن الآيات القرآنية التي سبق الإشارة إليها وغيرها تعكس حقيقة أن القرآن الكريم قد فرق بين “بني إسرائيل” كقوم، وبين “اليهود” كطائفة دينية. أيضاً لم يذكر القرآن الكريم مصطلح “أرض إسرائيل”، ولكنه أشار إلى “الأرض المقدسة”، التي اختلف مفسري القرآن الكريم القدامي، في المعنى المقصود بها، فكيف حسم هذا النصف، أن فلسطين هي “أرض إسرائيل”، وكيف توصل هذا العبقري لهذه النتيجة “الفجة”؟!
في الواقع لم يحدد القرآن الكريم، الأماكن الجغرافية، ولا الأزمنة التاريخية، التى عاش في رحابها “بني إسرائيل”. في هذا السياق يقول د. محمد أحمد خلف الله، في أطروحته “الفن القصصي في القرآن” ما يلي: “المعاني التاريخية ليست من مقاصد القرآن في شيء ومن هنا أهمل القرآن مقومات التاريخ من زمان ومكان وترتيب الأحداث. إن قصد القرآن من هذه المعاني إنما هو العظة والعبرة أي في الخروج بها من الدائرة التاريخية إلى الدائرة الدينية. ومعنى ذلك أن المعاني التاريخية من حيث هي معانٍ تاريخية لا تعتبر جزءاً من الدين أو عنصراً من عناصره المكوّنة له.
لا وجود لليهود كـ”أمة وشعب وجنس”، ولا وجود لليهود كـ”هوية قومية أو عرقية مشتركة كمجتمع إنساني”، وقد كفانا مؤنة الرد على هذه التأويلات، العالم المصري، جمال حمدان، في كتابه “اليهود أنثربولوجيا” |
ومعنى هذا أيضاً أن قيمتها التاريخية ليست مما حماه القرآن الكريم ما دام لم يقصده. حين وصل العقل الإسلامي إلى هذه المرحلة من التفكير كان قد وصل إلى حيز كثير ذلك لأنه كان قد قطع شوطاً طويلاً في سبيل تحرُّر العقل الإسلامي من هذا المذهب التاريخي في فهم القصص القرآني. وكان قد وصل إلى القضاء على القصد التاريخي والقضاء على هذا القصد قد جلب للعقلية الإسلامية الفوائد التالية: (1) التحرُّر من الإسرائيليات والتخلُّص من كثير من هذه الفروض النظرية. (2) توجيه الذهن البشري إلى ما هو المقصود من القصص القرآني من المواعظ”.
هنا يلفت انتباهنا ما جاء في “تفسير المنار، الجزء الأول”، للشيخ محمد رشيد رضا: “إن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين. وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار لأجل الموعظة والاعتبار”. لن أمل من تكرار حقيقة معروفة، وهي أنه بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر على أثر واحد يربط “العهد القديم” بها، وأي ادعاء بغير ذلك غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق.
في هذا الصدد، يقول تومس طمسن، في كتابه “التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي”: “إن أي محاولة لكتابة تاريخ فلسطين في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، أو بدايات الألف الأولى قبل الميلاد، على الضوء التام لمصادر الكتاب المقدس، لتبدو على الفور محاولة فاشلة وميئوس منها، بل يمكن اعتبارها محاولة هزلية بالكامل، وتبعث على الضحك والفكاهة. إن قصص العهد القديم ما هي إلا مأثورات وحكايات كتبت أثناء القرن الثاني قبل الميلاد. وإنه مضيعة للوقت أن يحاول أي إنسان أن يثبت مثل هذه الأحداث التوراتية من خلال علم الآثار القديمة، فالعهد القديم ليس له أي قيمة كمصدر تاريخي”. يقول كيث وايتلام، في كتابه “ تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني “ إلى “أن صورة ماضي إسرائيل، كما وردت في معظم فصول الكتاب العبري، ليست إلا قصة خيالية، أي تلفيق للتاريخ”.
ثمّة حقيقة مهمة ـ يجهلها النصف ــ تكمُن في أنّ قرنًا من البحوث الأثريّة المكثَّفَة؛ لم يتمكن من تقديم البُرهان على أن أرض فلسطين أُطلِق عليها يومًا ما، مصطلح “أرض إسرائيل”، كحيِّز إقليميّ خاضع لسيطرةِ “اليهود”، ولم يظهر مصطلح “أرض إسرائيل” بمفهومه العامّ في أسفار التناخ (أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعًا) أيضًا. كما أنه لا وجود لليهود كـ”أمة وشعب وجنس”، ولا وجود لليهود كـ”هوية قومية أو عرقية مشتركة كمجتمع إنساني”، وقد كفانا مؤنة الرد على هذه التأويلات، العالم المصري، جمال حمدان، في كتابه “اليهود أنثربولوجيا”، والبروفيسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، في كتابه “اختراع الشعب اليهودي”.
ومن المؤكد، أن اليهود المعاصرين ليسوا أحفاد “بنى إسرائيل” التوراة، في العام 1976 ألقى آرثر كوستلر، قنبلته الأدبية التي حملت العنوان “القبيلة الثالثة عشرة”، والتي ترجمت إلى لغات عديدة وأثارت موجة من ردود الفعل المتباينة، أوضح فيها أثر الخزر في تكوين اليهود المعاصرين، وخلاصة ما ينتهي إليه أن “غالبية اليهود العصريين ليسوا من أصل فلسطيني بل من أصل قوقازى. فإن التيار الأساسى للهجرات اليهودية لم يتدفق من البحر المتوسط عبر فرنسا وألمانيا إلى الشرق ثم العودة مرة أخرى، بل اتجه التيار على نحو ثابت إلى الغرب من القوقاز غبر أوكرانيا إلى بولنده ومن هناك إلى أواسط أوروبا ــ وعندما نشأت في بولنده تلك المستوطنات الجماعية التى لم يسبق لها مثيل، لم يكن هناك في الغرب أعداد من اليهود تكفى لتفسير هذه الظاهرة، على حين كان هناك في الشرق أمة بأسرها تتحرك نحو حدود جديدة.
يسير النصف على خطى الزعيم الصهيوني بن غوريون، الذي ادعى عشية الاستعمار الصهيوني أن فلسطين كانت في “حالة فعلية من الفوضى بدائية ومهملة ومهجورة”، والاستيطان اليهودي “أعاد الحيوية “للأرض |
وبطبيعة الحال سوف يكون من الحماقة أن ننكر أن يهوداً من أصل مختلف أيضاً في المجتمع اليهودي الكائن في عالم اليوم، ومن المستحيل أن نحدد النسبة العددية لمساهمة الخزر إلى مساهمات الساميين وغيرهم، ولكن ما تجمع من البراهين يجعل المرء ميالاً إلى الاتفاق مع إجماع المؤرخين البولنديين على أنه (في الأزمنة المبكرة نشأت الكتلة الأساسية من اليهود أصلاً من بلاد الخزر) ومن ثم تكون مساهمة الخزر في التركيب الوراثي لليهود مساهمة جوهرية بل ومهيمنة في كل الاحتمالات”.
لم يتوقف التدليس التاريخي للإعلامي، النصف عند هذا الحد، بل تطور إلى القول بإن: “تل أبيب وما حولها أراضٍ يهودية عبر التاريخ”! فالمطلع ولو قليلاً، على النصوص التاريخية يري جيداً أن هذا التسليم المطمئن ينطوي على تدليس تاريخي. فمغتصبة تل أبيب تأسست في عام 1909 على ضواحي المدينة التاريخية يافا، عروس البحر، التي يقول علماء الآثار إن عمرها يزيد عن خمسة آلاف عام. في المرحلة الأولى تأسست حارة واحدة كان اسمها “أحوزات بايت” على التلال شمالي يافا، وسمي الشارع الرئيسي لها باسم مؤسس الحركة الصهيونية، أي شارع هرتسل (اليوم في المنطقة الجنوبية للمدينة). في 1910 قرر المؤسسون توسيع الحارة وجعلها مدينة، واختاروا اسم “تل أبيب”، نسبة إلى رواية تيودور هرتسل (آلتنيولاند “الأرض القديمة الجديدة”)، وترجمها ناحوم سوكولوف إلى الإسرائيلية باسم (تل أبيب)، بمعنى (تل الربيع)، الاسم المأخوذ أصلاً من سفر حزقيال (3:15): ”فَجِئْتُ إِلَى الْمَسْبِيِّينَ عِنْدَ تَلِّ أَبِيبَ، السَّاكِنِينَ عِنْدَ نَهْرِ خَابُورَ. وَحَيْثُ سَكَنُوا هُنَاكَ سَكَنْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مُتَحَيِّرًا فِي وَسْطِهِمْ”.
يقول شارون روتبارد (أستاذ محاضر في “أكاديمية بلزيل للفنون والتصميم” في فلسطين المحتلة، وصاحب مقعد الفنون المعمارية في “كلية كير” في الهند)، في كتابه: “مدينة بيضاء، مدينة سوداء – أسلوب بناء وحرب في تل أبيب ويافا”، ما نصه: مدينة تل أبيب توسعت على حساب عروس البحر يافا عام 1948 عندما طرد الصهاينة عبر البحر أهلها، الذين بلغ عددهم عندئذ نحو مئة ألف نسمة. غرق كثير منهم، وقد ابتدعت اللغة الإنكليزية مفردة جديدة لوصف هذه الجريمة المزدوجة هي ((urbicide، أي “الإبادة المدينية”. عاش الكاتب فترة طويلة في المنطقة، ما أهله للحكم على طريقة توسع تل أبيب، الذي تم عبر تدمير البيئة التي نشأت مدينة يافا فيها. قام الصهاينة بإزالة التربة السوداء على عمق مترين بهدف وضع أسس مدينتهم الجديدة المسماة “المدينة البيضاء”.
إذن مغتصبة تل أبيب قامت على أنقاض يافا ، إلاّ أن هناك عدد من المناطق التي امتدت وتوسعت على أنقاضها ، أزيلت معالمها ، وحذفت الأسماء عن الخارطة ، وهي :- ( ساقيّة ، الجمّاسين ، أبو كبير ، سلمة ، صُمّيل ، الشيخ مونس ، المنشيّة ، سارونا ، السافِّرية ، العباسية ، عرب السوالمة ، فجة ، كفر عانة ، الحميدية ، يازور ، الخيرية ، بيار عدس ، أرسوف ، الحرم).
ومن هذه القرى التي قامت على أنقاضها مغتصبة تل أبيب، قرية الشيخ مونس، والذي أرخ لعملية اقتلاع سكانها المؤرخ شلومو ساند، (أستاذ محاضر في “جامعة تل أبيب” في فلسطين المحتلة)، في خاتمة كتابه: “اختراع أرض إسرائيل”، تحت عنوان “القرية كأمثولة والذكرى كعبرة”. وأهدى كتابه هذا “إلى ذكرى سكان قرية الشيخ مونّس الذين اقتلعوا في الماضي البعيد من المكان الذي أعيش وأعمل فيه في الحاضر القريب”.
ومنذ عام 1950 ضمّت بلدية تل أبيب مدينة يافا لسلطتها، وأصبحت بلدية واحدة تسمى بلدية تل أبيب ــ يافا، يشكل فيها السكان العرب ما يقارب 2% من السكان. ومنذ اللحظة الأولى وضعت بلدية تل أبيب ــ يافا مخطط تهويد المكان، فغيّرت كل أسماء شوارع مدينة يافا إلى أسماء عبرية لقيادات الحركة الصهيونية أو أسماء غريبة عن المكان لا تمتّ له ولتاريخه العربي العريق بأي صلة. كما عملت على تغيير الطراز المعماري للمكان من خلال هدم جزء كبير من المباني القديمة، وهدم أحياء وقرى بكاملها.
استطرد النصف، وتحدث عن المستوطنات، قائلاً: “إن المستوطنين جاؤوا لتعمير فلسطين والقضاء على الجهل بتقدمهم وتطورهم”. هنا يسير النصف على خطى الزعيم الصهيوني بن غوريون، الذي ادعى عشية الاستعمار الصهيوني أن فلسطين كانت في “حالة فعلية من الفوضى بدائية ومهملة ومهجورة”، والاستيطان اليهودي “أعاد الحيوية “للأرض. ولكن الأيام أثبتت أن تلك الرواية لم تكن ــ سوى “محض تزوير”. فالإجماع المتزايد بين المؤرخين يشير إلى أن إجبار الفلسطينيين على الفرار كان أمراً مخططاً له. بل إنه في صلب الهدف الصهيوني في إقامة دولة يهودية أغلبيتها العظمى من اليهود. [يُراجع في ذلك إيلان بابيه، التطهير العرقي]. ومن هذا المنظار، فليس هناك أهمية لمناقشة ما إذا كان المستوطنين جاؤوا لتعمير فلسطين! إن هذا التاريخ الملفق، كوّن عقل هذا النصف “المتصهين”، الذي يلوم الشعب الفلسطيني لرفضه قرارات التقسيم.
في هذا الصدد، يقول الأب مايكل بربر، رئيس كلية اللاهوت والدراسات الكتابية في كلية جامعة سانت ماري بجامعة سَرِي، في كتابه “الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني ـ أمريكا اللاتينية، جنوب أفريقية، فلسطين”: بّين آفي شليم كيف أن الهدف الحقيقي للصهيونية كان إقامة دولة يهودية على فلسطين بأكملها، وأن القبول بالتقسيم في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين وكما في عام (1947م)، كان تكتيكًا وليس تمييعًا للحلم الصهيوني: “وأنا لا أعد دولة على جزءٍ من فلسطين هدفًا نهائيًا للصهيونية “بل وسيلة تؤدي إلى تحقيق ذلك الهدف. وباختصار، يمكننا القول أن ما تفوه به النصف، يتراوح ما بين الجهل والجنون، ولتقديم شهادة حسن سلوك لاعتماده عند الصهاينة، وهو نتيجة حتمية لـ “ظاهرة المتصهينين العرب”، المتأثرة بالخطاب التوراتي والصهيوني!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.