شعار قسم مدونات

الحركات الجهادية تدعم النظام الدولي أم تقاومه؟! (3)

blogs داعش

يفترض أن يقوم التحليل للظواهر السياسة والاجتماعية بثلاث وظائف رئيسية: رصد الظواهر السياسية، وتفسيرها، ومحاولة التعرف على مآلاتها؛ وفي المقالين السابقين حاولت رصد ظاهرة تتعلق بالحركات الجهادية وأنها وإن كانت تعلن مقاومة النظام الدولي إلا أنها وقعت في مصائده فأفاد منها في تحقيق أهدافه هو.

 

وما يقال عن الجهادين قلناه من قبل عن السلفيين ويمكن أن يقال عن الشق السياسي من الصحوة الإسلامية، بمعنى أن عامة الحركات الإسلامية وقعت، لا في الهزيمة من عدوها، بل استطاع عدوها أن يوظفها لأغراضه هو؛ وبعد الرصد والتحليل بما يناسب مقال لهذه الظاهرة (توظيف الحركات الإسلامية من قبل عدوها) علينا أن نطرح سؤالًا يفتش عن المآلات: هل ستبقى الحركات الإسلامية موظفة من قبل عدوها؟!، هل سيظل المشهد هكذا؟!

 

وخاصة أنه ممتد منذ قرابة قرنين من الزمن (حين تم توظيف حركة التجديد في الأزهر والتي جاءت عليها الحملة الفرنسية فانتهت بحسن العطار ورفاعة الطهطاوي، ثم توالى التوظيف لحركة التجديد في الموجة الثانية والتي شملت الأفغاني وعبده،..)؟ دعنا نقدم إجابة من خلال مشاهد رأسية (علوية) لعددٍ من ساحات المواجهة بين الحركة الإسلامية ومن لا يريدونها:

مشهد عام:
الحركات الجهادية تنطلق من فكرة النمو وهي الفكرة الكامنة -أو قل الأساسية- خلف ما كتب سيد قطب وإن لم تظهر بشكل مباشر في النص، ونبش عنها وجلاها من بعده الشيخ عبد المجيد الشاذلي في مقدمة كتابه (حد الإسلام)

تستهدف الصحوة الإسلامية بجميع طوائفها استعادة الحياة على قواعد الشريعة كما قد كان في نموذج القرون الأولى. بتعبير أدق: تعبيد الناس لله.. أو إقامة الحياة على أسس التوحيد. وفي المقابل يسعى الغربيون إلى توطين قيم العلمانية الوضعية المادية واقعًا في حياة الناس، يحاولون صياغة الحياة على أسس علمانية كلية أو جزئية؛ وعمليًا تزحف العلمانية الغربية على الجنوب والشرق من جميع المداخل الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية وتهضم هذه المجتمعات وتعيد صياغتها من جديد. وكلاهما لا يرض بالآخر إلا تابعًا، مغلوبًا على أمره. بمعنى أن المشهد العام تدافع إلى أن يستقر أحدهم سيدًا والآخر تابعًا.


الحركات الجهادية:

أريد رصد مشهد جزئي يتعلق بما نحن بصدده في هذه المقالات الخاصة بتوظيف الحركات الجهادية، خلاصة هذا المشهد أن الحركات الجهادية تحلم بمجتمع تحكمه هي وفقًا لرؤيتها للشريعة الإسلامية؛ وتتخيل أن الطريق إلى ذلك يمر بفوضى (توحش)، والغربيون يسعون لتغيير النظم السياسية وإعادة ترتيبها من خلال فوضى أيضًا. وفي ساحة الفوضى يلتقيان؛ الجهاديون يريدون فوضى تقضي على سيطرة النظم المحلية، ومن ثم يبتدئون بإدارة هذا المجتمع الفوضوي المتوحش. والغربيون يسعون لفوضوى مرحلية يطورونها لمجتمع جديد مبني على أسسهم هم، ما يسمونه (إعادة البناء) أو (فرض السلام). وحاول الجهاديون في نموذج داعش إدارة التوحش في العراق والشام ونجحوا جزئيًا إلا أنهم وقعوا في التوظيف من قبل عدوهم.

حين تضع هذا المشهد بين عينيك وتعيد النظر فيه مرة بعد مرة وتبحث عن أسبابه ومآلاته، وتحاول أن تقرأه في سياقه العام (الصراع بين العلمانية والإسلام)، تجد أن الحركات الجهادية تنطلق من فكرة النمو وهي الفكرة الكامنة -أو قل الأساسية- خلف ما كتب سيد قطب وإن لم تظهر بشكل مباشر في النص، ونبش عنها وجلاها من بعده الشيخ عبد المجيد الشاذلي في مقدمة كتابه (حد الإسلام). يتحدث الأستاذ سيد قطب عن مجتمع يتكون من فرد ثم يتكاثر كمتتابعة حسابية (2 4 8 16 32..) إلى أن يصل إلى اثنى عشر ألفًا يكونون المجتمع الإسلامي، ونسي الأستاذ أن هذا العدد للجيوش وليس للمجتمع، وأن طبيعة المجتمع غير طبيعة المقاتلين.

ترجمت فكرة النمو عند الجهاديين وغيرهم إلى فكرة التنظيم وإلى فكرة تمثيل المجتمع المسلم وإلى فكرة تكفير-أو تبديع- غيرهم ممن لم يدخل في هذه المتتالية التي نمت وشبت واشتدت من الأصل (مؤسس التنظيم/ الدعوة) وإلى فكرة العزلة والبناء من جديد كأنهم في فراغ؛ ولذا لم يتجه المتأثرين بفكر الأستاذ سيد قطب إلى العمل من خلال البيروقراطية كما في التجربة التركية والماليزية مثلًا، حتى الإخوان داخل هذا النسق وإن أعلنوا موقفًا إيجابيًا من المشاركة السياسية والمجتمع، فهو نفاق مجتمعي وهم متكتلون داخل إطار خاص (جماعة منظمة) يحاول هضم المجتمع لا إدارته وتطويره.. يحاول النمو على حساب غيره وكأنه مجتمع الدعوة الأول.

ولذا كان من الطبعي جدًا أن يكون عماد هذا النمو هو التقوى والتدين الفردي وتعطيل فقه المجتمع إلى أن يتكون المجتمع (الجماعة المؤمنة) في أرض فضاء (فوضوية متوحشة) أو داخل جماعة لها عزلة حقيقية (كما التكفيريين) أو عزلة شعورية (كما باقي الجماعات والتيارات). وهذا التصور هو السبب في إهمال التحديات الخارجية مع أنها تعمل بكلتا يديها وبأدوات حادة.

والغربيون يمتلكون أدوات صنع الفوضى وتطويرها، وقد مكنهم الله من أسباب القوة المادية والمعرفية ويتحركون حيث يشاءون ويحصلون على أكثر ما يريدون، والمجتمعات الإسلامية بالفعل تتطور في اتجاه النموذج الغربي الملحد الاستهلاكي الرأسمالي، ومن شاء فليقارن بين مجتمعه الذي يعيش فيه الآن ونفس المجتمع قبل عشرين عامًا وينظر عادات الناس وتقاليدهم أين تتجه: إلى التدين والالتزام أم إلى علمانية منفلتة؟ هل يستمر الأمر لصالح الغربيين؟؟، هل تنجح الحركات الإسلامية في بناية النموذج الإسلامي وتطويره على الأرض انطلاقًا من فوضى أو من دولة يسيطرون عليها ثم ينطلقون منها؛ أم تبقى الحركة الإسلامية في إطار التوظيف؟

المنظومة الغربية المعاصرة بها نقطة خلل رئيسية، وهي (الاعتماد المتبادل المعقد)، فالغربيون جعلوا العالم كأنه قرية واحدة، أو تطورَ منهم رغمًا عنهم فأصبح قريةً واحدة وذلك بعد اكتشاف الطاقة وثورة التكنولوجيا التي انعكست على حركة النقل (نقل الأفراد، ونقل المعلومات، ونقل الأموال، ونقل البضائع)، ولا يستطيع العالم أن يعيش تبعًا للنموذج الغربي المعاصر إلا بشكل مجتمع واحد (قرية واحدة)؛ فإن خرج جزء منه عن سيطرة الغربيين تهشمت المنظومة كاملة. فلن تصل الطاقة لمراكز التصنيع، ولن تصل البضائع للأسواق، ولن تتدفق الأموال، ولا المعلومات، ولا الثقافة كما يراد لها، ولن تستطيع القوى المهيمنة العالمية (الولايات المتحدة وحلفائها) احكام سيطرتها على العالم وسوف يحل الفقر ومن ثم التنازع بين الدول الغربية والشرقية التي فرض التوافق عليها بالقوة المهيمنة بعد الحرب الثانية.

 

لو آمنت الحركة الإسلامية بفكرة التخصصية، واتفقت على إطار عام للعمل وعلى هدفٍ واحدٍ مشترك، ويكون واسعًا قدر المستطاع ليدخل فيه الجميع، حينها يكون باستطاعتنا التحدث عن عرقلة حقيقية للمنظومة الغربية ووقف للتوظيف
لو آمنت الحركة الإسلامية بفكرة التخصصية، واتفقت على إطار عام للعمل وعلى هدفٍ واحدٍ مشترك، ويكون واسعًا قدر المستطاع ليدخل فيه الجميع، حينها يكون باستطاعتنا التحدث عن عرقلة حقيقية للمنظومة الغربية ووقف للتوظيف
 

وهذا مكمن الخطر في الجماعات الإسلامية عمومًا والجهادية على وجه الخصوص: إخراج جزء من العالم عن سيطرة النظام الدولي، وخاصة في المنطقة العربية الإسلامية التي تقع وسطًا بين الشرق والغرب، والتي تمتلك مواردًا طبيعية يدار بها عجلة الاقتصاد الدولي، وتمتلك أسواقًا للمنتوجات الغربية، وتستطيع أن تربك أو تعرقل حركة النقل. لن يتحمل النظام الدولي خروج جزء منه عن السيطرة، ولذا يسارعون لهضم الجميع.

ودون ذلك خطرٌ آخر على النظام الدولي تشكله الحركات الإسلامية، وهو خطر الإنهاك الداخلي والخارجي، وهذا الانهاك يعرقل التطوير في اتجاه النموذج الغربي العلماني الملحد. فإذا ألقينا نظرة على الحركات الإسلامية مجتمعة فإننا نلاحظ نوعًا آخر من التحدي تشكله هذه الحركات للنظام الدولي؛ يتمثل في أنها موزعه على جميع مجالات الحياة، فبعضها يعارض سياسيًا، بمعنى يعرقل توطين المنظومة السياسية الغربية في العالم الإسلامي؛ وبعضها يعرقل ثقافيًا عن طريق الاعتراض على نمط الحياة الغربي في الثياب وطريقة النوم والطعام والشراب وكل شيء تقريبًا، وبعضها يعرقل من الناحية العلمية الأكاديمية وذلك بتقديم نقد للمنظومة الغربية ذاتها أو الإفادة من نقدها لنفسها؛ وبعضها يعرقل من خلال العمل المسلح، فلو سيطر هؤلاء على منابع الطاقة أو خطوط النقل والموصلات لأضروا بالنظام الدولي كثيرًا.

لو آمنت الحركة الإسلامية بفكرة التخصصية، واتفقت على إطار عام للعمل وعلى هدفٍ واحدٍ مشترك، ويكون واسعًا قدر المستطاع ليدخل فيه الجميع، وأن كل واحدٍ منها جزء من الأمة لا الأمة، وأن عوام الناس الذين لا ينتمون للحركة الإسلامية من الأمة أيضًا؛ بل إن بعض من يرفضون الحركة الإسلامية كالصوفية والرسميين من المتدينين من الأمة أيضًا، حينها يكون باستطاعتنا التحدث عن عرقلة حقيقية للمنظومة الغربية ووقف للتوظيف. ولا أعتقد أن فكرة التنسيق تحتاج أفرادًا بقدر ما تحتاج إلى بلورة الفكرة نفسها ونشرها على الناس، وعندنا مبدأ التراحم والتعاون ونبذ التنازع. وخاصة أن النقد والتكفير الداخلي لم يفد منه أحد فلم تنته جماعة لصالح جماعة. فقد تبين بالوقت أن الجماعات والتيارات في جوهرها تخصصية أو طبائع نفوس، أو قدرات في الفهم والتطبيق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.