كانت الساعة العاشرة مساءً، وهو لا زال منشغل في إعداد صينية الكنافة لرفقائه في غرفة السجن، علَّه يُسهم في إطعامهم شيئاً لذيذاً حُرموا منه، منذ ساعتين وهو يعمل على إعدادها، فالخبز الناشف يحتاج إلى جهد كبير من أجل برشه ثم تحميصه لاستخدامه في عمل الكنافة بالجبنة الصفراء، لم يُشعر أحد من رفقائه في الغرفة وعددهم تسعة؛ تلك الغرفة التي لا تتسع لأكثر من شخصين، أنه حزين لأن عرس ابنته كان في ذلك اليوم، حافظ على رباطة جأشه، لا بل وأصر أن يُعد بنفسه الحلويات لإخوانه الأَسرى.
كان يكلمه أحد الأَسرى أثناء تحضيره للحلويات، بيد أنه كان سارحاً في عالم آخر، ذهب إلى هناك، إلى لحظة اعتقاله، عندما عانقته ابنته العروس التي حُدد عرسها بعد أُسبوع، عانقته أمام الجنود وهي تبكي وتصرخ اتركوه كي يحضر عرسي. لم تعلم حينها أن عرسها سيحصل في ظل غياب والدها حبيبها عنها، كما حصل بالضبط مع أخيها من قبلها؛ الذي أجّل عرسه أكثر من مرة، عله يحظى بمشاركة والده لفرحته، بيد أن الاعتقال الإداري حال دونه ودون تلك الفرحة. عاد أسيرنا من سرحانه، وواصل خدمته لإخوانه، ودعاهم لأكل الكنافة احتفالاً بتوديع زميلهم الذي سيفرج عنه في اليوم التالي، وبعد ذلك أخذ أحد الأسرى يراقب إدارة السجن، لأنهم سينشدون فرحاً بالإفراج عن زميلهم. شاركهم والد العروس النشيد والأهازيج التي كان من المفترض أن ينشدها في عرس ابنته، لم يظهر لرفقائه أي علامات للحزن. بيد أنه سهر تلك الليلة وهو يُعد رسالة محبة لابنته سيرسلها مع زميله المفرج عنه لتهنئتها بعرسها.
لا تحسدوهم على لحظة مكابرة يحاولوا خلالها إدخال البهجة والسرور على بعضهم البعض، وأن يتحدوا السجان خلالها، عيشوا مأساتهم بحق ثم تكلموا عنهم. |
في اليوم التالي اقتحمت إدارة السجن القسم، وأغلقت غرفة الكنافة والأهازيج، وسحبت التلفاز والمراوح، وفرضت على أفراد الغرفة عقوبة حرمان من زيارة الأهل لمدة شهرين، كل هذا لأن أصوات الأهازيج الممنوعة وصلت لإدارة السجن، كيف لا وهم المعذِبون الذين لا يستطيعون رؤية أي علامات للفرح على وجوه سجنائهم. هكذا هي حياة الأَسرى، يقاومون سجانهم بإظهار ثباتهم وفرحهم وسرورهم برغم آلامهم، أليسوا هم العرب الأقحاح الذين يحفظون شعر إمامهم الشافعي عندما قال: ولا تُر للأعادي قط ذلا، فإن شماتة الأعدا بلاء. هذه المظاهر رأيناها ومارسناها خلال تنقلنا في أقبية التحقيق والسجون، فقد اشتهر عن الأسرى الفلسطينيين غناءهم وأهازيجهم حتى وهم داخل زنازين التحقيق التي يعيش فيها الأسير أصعب أيام حياته، كانت الزنزانة التي بجانبي، ينادي علي ساكنوها ويطلبوا أن أغني لهم أغنية ميس شلش التي أحفظها والتي تقول فيها: من جوا الزنزانة اسمعتك يا أمي تناديني.
اليوم تثار ضجة خرقاء حول تصريحات عهد التميمي التي وصفت خلالها بعض فعاليات الأسيرات أثناء حياتهن في السجن، من غناء ورقص وتحضير للطعام وغيرها؛ تلك التصريحات التي لا يمكن لمن لم يعش تلك الظروف أن يضعها في سياقها السليم، ألم تشاهدوا ذلك الطفل الفلسطيني الذي كان يدبك وهو يلوح بمقلاعه ويرمي بحجارته على العدو الصهيوني؟ ثم إن كانت كل تلك الضجة مفتعلة بسبب الخلاف في مأساة الشعب السوري، أليسوا هم السوريون من علمونا فن الأهازيج والدبكة خلال احتجاجاتهم الشعبية؟ لقد اعتدنا نحن العرب على المآسي، وبرمجنا عقولنا أن المناضل يُعرف من كثرة خوازيقه ومآسيه، وتغلغل إلى برمجتنا الداخلية أن المناضل الذي سُجن وعُذب وهُدم بيته؛ إن رأيناه في حالة فرح وسرور، أو تحسنت أحواله المادية واشترى له سيارة فاخرة، فهو بلا شك بدأ في طريق الخيانة وترك قضيته.
إن أردتم أن تقيّموا تجربة أسير أو أسيرة، أو أن تحكموا على كلامه، اسألوا بعمق عن كل خطوات اعتقاله وما عاناه خلال مدة غيابه عن أهله، اسألوا والد ووالدة عهد التميمي وباقي الأسيرات عن كل تلك الليالي التي قضتها بناتهن خلف أسوار سجون الاحتلال، اسألوهم عن مرضهم لغياب بناتهن، اسألوا الأسيرات عن لحظات الخوف والقلق والحرمان. اسألوا الأسيرة عن اشتياقها لأبنائها وكيف تعيش بمأساة وهي بعيدة عنهم، لا تحسدوهم على لحظة مكابرة يحاولوا خلالها إدخال البهجة والسرور على بعضهم البعض، وأن يتحدوا السجان خلالها، عيشوا مأساتهم بحق ثم تكلموا عنهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.