شعار قسم مدونات

الكسل والخوف.. عقبة الخروج من التخلف في العالم العربي

BLOGS المجتمع المصري

سبق التحول من سيطرة الكنيسة في العصور الوسطى المسيحية إلى الدولة المدنية الحديثة والمجتمع العقلاني المستنير في أوروبا بعد الثورة الفرنسية 1789م مرحلة تسمى بـ "عصر النهضة" التي بدأت من القرن الرابع عشر الميلادي واستمرت إلى نهايات القرن السابع عشر تقريبا، ثم "عصر التنوير" الذي بدأ من القرن الثامن عشر الميلادي. عندما سُئل الفيلسوف الألماني الكبير إمانويل كانط: ما هو التنوير؟ أجاب: "هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر"، وحدد كانط عاملين للقصور أو الخلل الذي يقصده كمعيق لعملية التنوير وهما: الكسل والخوف.

يتكاسل الإنسان عن استخدام عقله في فهم أمور حياته، ويفضل أن يأخذ الإجابات جاهزة من غيره، لكن لهذا ثمن هو التبعية لمن يقدم الإجابة بالتأكيد. فهذا الاعتماد الكامل على الآخرين هو ما يصنع الطغاة و "وعاظ السلاطين"، ويجعل الناس مقيدين – باختيارهم – من رقابهم في يد "رجل دين" يحدد لهم كيف يأكلون وكيف يشربون وكيف ينامون وكيف يضربون زوجاتهم.. وكيف يسمعون كلام الحاكم ويطيعونه!

قرأت والله مئات الأسئلة الساذجة والبسيطة يوجهها رجال ونساء ناضجون إلى "رجال دين"، لا تستوجب بطبيعتها البسيطة الاعتماد على الآخرين، وإنما تتطلب بذل جهد عقلي بسيط لا أكثر، لكن هذا الجهد العقلي البسيط سيضمن – إضافة إلى الاجابة – قدرا كبيرا من الكرامة والحرية والاستقلالية. ثمة لعبة ترهيب يمارسها بعض “رجال الدين” المحترفون لا شك، من خلال استخدام مصطلحات ومفاهيم مقعرة ومحدبة وملتوية تستعصي على فهم أغلب الناس، فيخافون، ويتكاسلون عن استخدام عقولهم، لذلك يفضلون أخذ الوصفة جاهزة من "فضيلته" و"سماحته" و"نيافته".. أليس هذا ما يصنع الطغاة والطغيان في عالمنا البائس؟! ألسنا نحن من سلّمنا عقولنا بأنفسنا لآخرين يتلاعبون بها ويوجهوننا إلى ما يخدم السلاطين وحلفائهم من رجال دين ورجال مال؟! أليس هذا ما كان يحدث في أوروبا في "عصور الظلام" حينما كانت الكنيسة تتخادم مع السلطة والإقطاعيين؟!

العالم العربي فعليا يعيش مرحلة تشبه كثيرا مرحلة العصور الوسطى المسيحية، إقطاع وسخرة وتخادم بين رجال السلطة ورجال المال ورجال الدين

يكمن الحل للتخلص من عقلية القطيع والتبعية الاختيارية و“أصنام العقل” التي صنعناها بأنفسنا وعبدناها، يكمن في التنوير، أي في استخدام عقولنا بأنفسنا دون توجيه من أحد. أولم يقل لنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام "استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك"؟ والتنوير يكون بالتربية ونشر الوعي الحقيقي مقابل الوعي الزائف الذي ينشره وعاظ السلاطين وأمثالهم. القراءة الحرة غير المقيدة بالقيود التي يفرضها المذهب أو الايديولوجيا هي مفتاح التنوير هنا. كان عالم الاجتماع العراقي الكبير د. علي الوردي يقول: الذي لا يفارق بيئته التي نشأ فيها، ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته الموروثة، لا ينتظر منه أن يكون حياديا في أحكامه".

لاحظوا.. كلمة “تنوير” في اللغة الألمانية هي Erleuchtung، لكن إمانويل كانط لم يستخدم هذا اللفظ وإنما استخدم كلمة أخرى هي Aufklärung والتي تعني حرفيا "التوضيح" أو "التعليم" أو "التدريب" فلماذا؟ السبب أن كلمة Erleuchtung بالألمانية (أي تنوير) كانت تستخدم آنذاك بمعنى "الثورة"، ورغم أن الفيلسوف كانط كان مؤيدا لمبادئ الثورة الفرنسية، إلا أنه لم يؤيد الثورة كوسيلة للاصلاح، فقد كان موقنا بأن اصلاح عقول البشر وجعلهم مستقلين بذواتهم ويستخدمون عقولهم بأنفسهم أمر لا ينفع معه التغيير المفاجئ والسريع والذي يحدث في الثورات عادة، وإنما يتطلب تدريبا وتربية عقلية ونقدية طويلة الأمد، بالتربية والتوعية والتدريب على التفكير النقدي الحر.. فهذا هو التنوير الحقيقي.

إن العالم العربي فعليا يعيش مرحلة تشبه كثيرا مرحلة العصور الوسطى المسيحية، إقطاع وسخرة وتخادم بين رجال السلطة ورجال المال ورجال الدين. ولمن يقول لا كهنوت في الاسلام نقول له وماذا تسمي ما نحن فيه إذن؟ لدينا كهنوت بكل وضوح، يتمثل بمؤسسات دينية رسمية حكومية تتبع الحاكم وتخدم مشروع الحكم، تفرض فهما أحاديا للدين من خلال وجهة نظر السلطة، وتلوي الفتاوي والأحكام الشرعية لصالح هذا الفهم، وتحدد للناس ما هو الحلال وما هو الحرام، وتغير الأحكام حسب مصالحها وهواها.. أوليس هناك تراتبية في المناصب الدينية؟ أوليس هناك زي ولباس محدد لرجال الدين يعرفون به بين الناس؟ كيف بعد هذا يقال لا كهنوت في الإسلام!

نحن نعيش عصور ظلام إسلامية بكل وضوح منذ عطلنا العقل وأحيينا التبعية الكاملة لوعاظ السلاطين، منذ تحريم "علم الكلام" ومنع الناس من النظر في أمور دينهم ودنياهم وكأن الحياة ألغاز وأسرار لا يفك طلاسمها إلا أتباع السلطة ومرتزقتها. ولكي نخرج من هذا الظلام الذي نحن فيه، إلى أنوار المدنية والحضارة الإنسانية الرحيبة، بكل ما فيها من حرية واستقلالية وكرامة، علينا أن نستخدم عقولنا بأنفسنا، وننشر الوعي العقلاني بين الناس، لكن، نحتاج أولا أن نتخلص من الخوف والكسل كما قال إمانويل كانط بعمق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.