شعار قسم مدونات

هل نستطيع أن نكتب في كل شيء؟

blogs - كتابة

يقول العماد الأصفهاني: "إنّي رأيتُ أنّه لا يكتبُ إنساناً كتاباً في يومه إلّا قالَ في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ هذا لكان يُستحسن، ولو قُدّمَ هذا لكان أفضل، ولو تُركَ هذا لكان أجمل، وهذا من أعظمِ العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على كافة البشر".

   

تجسّدت مأساة الروائي ريتشارد براون في فيلم (الساعات) والذي لعبِ دوره (إد هاريس)، في عجزِه عن الكتابة في كلِّ شيء، وقدْ لمسنا هذا في مشهدٍ نراهُ فيه مُنكسراً، ومشدوهاً في نفس الوقت، يتحدّثُ فيه عن طموحه في الكتابة في كلِّ شيء، في كلِّ شاردة وواردة، وفي أدقِّ التفاصيل، كانَ يحلمُ أنْ يكتبَ عن النَفَس وعن شهيقه وزفيره، ويشطحُ بخياله كيفما شاء! يريد أنْ يكتب عن سجادته على الأرض، وعن أصغر خيطٍ في هذه السجادة، مأساته جلل، ومستحيلة، فكيفَ لنا أن نكتبَ في كلِّ شيء وبالمطلق وبمعناها الواسع اللامتناهي؟ فهيهات هيهات على حٌلمٍ كهذا!

   

أرى أنَّ على أيَّ كاتبٍ أو إنسانٍ بشكلٍ عامّ أن يعترف بنقصه، فهذا من طبيعة البشر، وبحثه عن الكمال في كل شيء وتحديداً في مجال الكتابة سيجعله كئيباً، وفي صراع لن ينتصر فيه مهما فعل

أنا سألتُ السؤال، ومنْ ثمَّ وضعته عنواناً! والإجابة ستكون: لا، دون نقاشٍ أو جدل، ولا أنتظرُ غير هذه الإجابة، ولكنْ، ما الهدف من هذا السؤال؟ إنْ كانتْ الإجابة بديهية، ولا تحتاجُ تفكيراً حتّى لثانية! مُنطلقي هنا سيكون تحليلاً لمنْ وقعَ وسيقع في هذه المصيدة، وفي الغالب هم منَ الروائيين، وهذا النقص سيلازمهم لآخر العمر كما قال العماد الأصفهاني في بداية المقال.

 

يقولُ أحدهم: (إذا أردتَ أنْ تكونَ روائياً ناجحاً، فعليكَ أنْ تقرأَ وتقرأْ، إلى أنْ تقول: أستطيعْ أنْ أكتب أفضل من هذا!) ومن هنا تبدأ الهواجس، وتبدأ المأساة! وأنا أراها شرّ إلى حدٍّ ما، فإنْ لمْ يكنْ لدى الإنسان تحكّم حقيقي داخلي في نفسه وفيما يكتب، سينتهي به الأمر مهووساً في الكمال وسيعيش يوتوبيا في عقله لا مهربَ منها! أحد أقوى الأمثلة عن الكمال وعن السعي وراءه هو الساموراي الياباني، فالكمال لدى هؤلاء القوم أوصلهم للانتحار بطريقة الهاراكيري! وهذا إنْ تمَّت مُحاصرته من قبل أعدائه، أو لأنّه التصقَ بعارٍ لا يمحوه إلّا الموت.

 

كنتِ في نقاشٍ مع صديقٍ لي البارحة، وقدْ حدّثني عن شيءٍ في غاية الأهميّة، وأحببتُ أنْ أُشير إليه قبل المُضي قُدماً هنا، وقدْ قالَ لي: (يجب على كل من يطرح فكرة معينة أنْ يبتعد عن فعلِ الأمر فيما يقول، وكأنَّ ما يقول هو نص مقدّس، واتبّاعه هو الخلاص)، لذلك أنا أكتبُ هنا، وأنا بريءٌ من كلِّ أمر، وإنّما أطرح ليقرأَ النّاس، وليقتنع من يقتنع، وليرفض من يرفض، وهذا الاختلاف هو من سنن الله بين خلقِه، وحتّى أنا أُريدُ أنْ أكتبَ في كلِّ شيء، لهذا تراني أطرح فكرةً هنا، وبعدها أنتقل لفكرة لا علاقةَ لها بصُلب الموضوع! والتسلسل هو السبيل لإيضاح أي طرح، ولهذا تراني أهاجم نفسي وأهاجم من يعيش مأساة الهوس والكتابة في كلِّ شيء.

 

كتبَ لي أحدهم أنّه قدْ ضاعَ وتشتت بعض الشيء وذلك بعد قراءته لأحدِ مقالاتي، وهذا ما أحزنني بعض الشيء، فعند سماعك لرأيٍ كهذا، سيأتيك هذا الشعور بفقدان التسلسل الصحيح، وفقدان الصورة الكاملة لما تكتب! فإيصال الفكرة ببساطة هو دليل على الفهم وإنْ كانت الفكرة معقّدة وهذا ما قالهُ آينشتين، وهذا الهوس سيوصلك إلى هذا الشتات في نفسك، ليصلَ إلى القارئ بعدها.

 

اليوتوبيا هي فكرة ضد فكرة تركيبة الإنسان، أو هي أشبه بفيروس قاتل يفتك بالإنسان الباحث عنها! ولهذا نرى أنَّ الحزن والاكتئاب مرافق وعلى الدوام للروائيين بشكل عام، وأنَّ معظمهم قد أفضوا لنهايات مُؤلمة وتراجيدية

أرى أنَّ على أيَّ كاتبٍ أو إنسانٍ بشكلٍ عامّ أن يعترف بنقصه، فهذا من طبيعة البشر، وبحثه عن الكمال في كل شيء وتحديداً في مجال الكتابة سيجعله كئيباً، وفي صراع لن ينتصر فيه مهما فعل، والعواقب هي المأساة نتيجة هزيمة حتميّة، لأننا بهذا نصارع طبيعة خلقها الله فينا، فالنقص لدينا هو شيء طبيعي، وهو ما يجعل من الإنسان إنساناً أو حيواناً باختياره، أمّا أنْ يكون كاملاً، فهذا تجديف، وإلّا لأصبحنا كالملائكة ونحن بشر، نسقط ونعلو، نفشل وننجح، نكتب ولا نرضى، ونكتب ما بقي النفس، ونُجاهد في كل لحظةٍ وساعة، هذا هو الإنسان! الضعيف الذي يُكابد، وليس إنسان نيتشه المثالي المتفوق! الإنسان الذي يكتب ما يرفضه، ليبقى يكتب مراراً وتكراراً ويرى أطروحاته تسقط وتعلو! فالثبات عند الله فقط ولا مكان له أبداً إلا عنده.

 

لنْ نستطيع أنْ نكتب في كلِّ شيء، حتّى أننا لنْ نستطيع إيجاد النمط الذي يحكم كل الأشياء، فأحد طموحات علماء فيزياء الكم هو إيجاد معادلة واحدة فقط تحكم القوانين الكونية جمعاء! وإيجاده ضرب من ضروب المستحيل يا أعزّاء، فهذا النمط الذي يربط جميع الأشياء هو الشوكة وهو الغصّة إنْ صحَّ القول! ولهذا أرى أنَّ الإقرار بالضعف والكفاح المستمرّ في مواجهة هذا الضعف، والتسليم بوجوده أسمى بمراحل من التعب والمحاولات المُضنية للإحاطة بكل شيء!

 

يقولُ ربُّ العزّة: (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا)، وتعقيباً على هذه الآية، ستتضح الصورة أكثر فأكثر، ودعونا نتأمل أيضاً في (إذا كانت النفوس كبارا تعبتْ في مرادها الأجسام)، فهذا الضعف في تركيبة الإنسان نتيجة مكابدة حياة مثلاً، أو نتيجة تراجيديا ضربته على حينِ غرّة! والأمثلة المتعبة كثيرة وصعبٌ حصرها، أمّا اليوتوبيا -كما وصفتها سابقاً- فهي فكرة ضد فكرة تركيبة الإنسان، أو هي أشبه بفيروس قاتل يفتك بالإنسان الباحث عنها! ولهذا نرى أنَّ الحزن والاكتئاب مرافق وعلى الدوام للروائيين بشكل عام، وأنَّ معظمهم قد أفضوا لنهايات مُؤلمة وتراجيدية.

 

لا أريد الإطالة أكثر! حتّى لا أُتهم أيضاً بالمثاليّة! فليس بوسعي ذكر جميع جوانب مسألة كهذه، ولا أريد أنْ أدقَّ مسماراً في نعشِ هذا المقال إنْ استرسلتُ وشرحت، أو قمتُ بوضع معايير معينة لتحكم كلَّ شيء! فلا حكمَ هنا في رأيي إلّا في التسليم في نقص الأشياء، وفي نقص البشر، والتسليم بهذا هو تصالح أكثر منْ أنّه حلّ، وكما قال بيجوفتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب: (الإنسان ليسَ مفصّلاً على طراز داروين، والكون ليس مفصّلاً على طراز نيوتن)، وقدْ قالَ أيضاً: (الإنسان كائن متعذّر فهمه)

 

من هنا أختمْ وأقول: أنَّ طرحي هنا لن يُطبّق على كافة البشر، فهنالك الكثير ممن لا يخطرُ على بالهم أمراً كهذا، وهنالك ممن يعيشون هذا كلَّ يوم! فلن أفصّل كلاماً يناسب مقاسات البشر، وإنّما هي مقاسات فضفاضة بالمعنى الحرفي للكلمة، فمنْ رآها مناسبة كانَ به، ومن رفضها كانَ به أيضاً، ولكنْ دعونا نبتعد عن المُستحيل! ونقترب من الممكن! دعونا نُبدع ونكتب، ودعونا ننسى هذا السؤال! فلنفقد الذاكرة ونتوقف عن الاستفهام ولننسى ونستنكر سؤال: هل نستطيع الكتابة في كلِّ شيء؟