شعار قسم مدونات

لهذا لا أريد الخروج والبحث عن عمل!

مدونات - رجل يجلس وحيد يفكر

هذا نص من محض كتابة بعض الذكريات، ومشاركة بعض الهموم والآلام، والكتابة بوح وتدرب على صنع النصوص في آخر المطاف، لكنا ابتلينا بقوم ليس في قلوبهم مرض، بل هم المرض نفسه، لا يحملون الكلام إلا على جانبه السيء، يظنون بالناس الظنونا، وقد حملتني ما لا أطيق، إذ طلبت مني أكتب لك عن شيء من الطفولة، بضمير "الأنا"، وفي الحق، ما كانت الطفولة بطفولة وإنما هي ضياع في ضياع، وبدلا من الكتابة عنها كتبت لك عن الضياع، فدونك النص، فاحمله على أي جهة شئت وشاء لك الهوى.
 
"سألتني أن أكتب لك عن الطفولة، فأمسكت القلم، فإذا بي أجد أنها لم تكن من طفولة هناك، وفاقد الشيء لا يكتبه، فقد ضاعت بين اللهو واللعب والجري وراء المرح والمتعة، لم نستفد منها كما تنبغي لنا الاستفادة، وللأسف وعيت على عالم عجيب في آخر لحظة، أو لنقل وعيت على شيء اسمه القراءة وحب العلم في فترات متأخرة من العمر، ها آنذا اليوم كلما تذكرت الوقت الذهبي الذي كان يجب صرفه في القراءة وطلب المعرفة ذهب سدى في أمور لا طائل من ورائها أذوي حسرة وأتآكل كمدا، في ظل هذه السوداوية القاتمة أحاول استدراك ما فات، بمعنى آخر أجاهد وأرابط من أجل تلافي ما يمكن تلافيه، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فتجدني في كل فترة أتخبط هنا وهناك.

  

المستقبل مغلق، والنفق حالك الظلمة، أما الأشياء فقد ماتت جميعها في النظر، لكن هل أمل أو أيأس؟ هل أواصل؟ وإلا ما معنى المغامرة؟ وإلا ما معنى أن تضحي؟"

تتوزع الطموحات بين كثير من الأمور، أريد تعلم لغة، إضافة إلى رغبة ملحة في توسيع مجال القراءة، مع إصرار رهيب على الإجادة في الكتابة، ثم إتقان مجال معرفي محدد، يكون هو تخصص العمر، بين كل هذا تجتاحني رغبة في ممارسة الحياة كما ينبغي لأي إنسان ممارستها، غير أن الجمع بين كل هذه الأمور المتفرقة ضرب من المستحيل، ويعد من الصعوبة بحيث قد أصاب جراءه بنوبة يأس قاتلة، تدفع بي إلي بحر طام من الاستسلام وترك كل شيء ورائي ظهريا، تاركا نفسي لعالم من الجمود والركود والخمود. لكن هيهات، أنى لي ذلك؟ وبين جنبي روح لا ترضى بالنسخة الرديئة من الحياة، ولا تستطيع أن يقر لها بال في حومتها ساعة من نهار، نفس يلهبها الطموح للتطوير والسعي نحو الأفضل، لذلك لم أترك القراءة منذ دهر، والكتابة أيضا، ومحاولة القراءة بلغة أجنبية.

  

في عز هذا القتال الرهيب، يضاف إلى ذلك مشكل آخر، بل مشكلان، الأول أني أشعر بعدم الجدوى من كل هذا، وأني لا أتقدم قيد أنملة، أحس أني لا أبرح مكاني! أما الثاني وهو الأدهى فيرجع إلى معضلة الفقر، إذ في كل مرة أعاني هذا الضغط الذي يتلف علي تركيزي، ويجعلني جثة هامدة تعاني التشويش، هذا التعبير الأخير غير سليم بالمرة، ما أردت القصد إليه، هو أني أفقد بوصلتي عندما يلح علي أهل الدار: "أن ابحثْ لك عن عمل، فهذه عطلة الصيف، وعليك أن تفعل كما يفعل الناس، اخرج إلى الحياة واجمع النقود كما يجمعها غيرك"! أتعلل أنه لا يمكنني ذلك وأني مشغول، فيأخذهم العجب بمأخذه، أي شغل لك؟! وأنت منذ دهر لم تبرح هذه الغرفة، لا تغادرها، لا يهمك شيء غير القراءة، ألم تسأم؟ ألم تصبك تخمة القراءة؟ في شبيه هذه اللحظات من الحديث ألوذ بالصمت، وأكتفي بابتسامة معتقة المرارة، أشعر أنهم لا يفهمون، أو ليسوا مستعدين لذلك على كل حال، كل همهم مجرد دريهمات أحصل عليها آخر اليوم، ننفقها صبيحة اليوم التالي كما أنفقنا الكثير! ومن لك بمن يفهم لغة الطموح والتضحية من أجله؟
 
ما يجعلني أمقت فكرة الخروج للبحث عن عمل في هذه الظرفية أني مذ وعيت على نفسي، وأنا أعمل في الشارع، وأجمع النقود، زاولت عمل النجارة والتجارة وصنع الجبس، وحمل أكياس الفحم مع الناس في مناسبات عيد الأضحى، وإيصال الأكباش جرا إلى عتبات المنازل لقاء دراهم خمس أو عشر، وكذا بيع البيض المسلوق على شاطئ البحر لقاء درهم ونصف، وكراء دراجة هوائية عجيبة الشكل غريبته مؤخرا، لكني -ويا للعجب- لم أغتن، ولا اغتنت أسرتي جراء هذا العمل الدائب، هذه واحدة، أما الثانية، فإنها تكمن في أن هذه الأعمال كانت أحد الأسباب الرئيسة في أني فقدت زهرة الطفولة في شيء تافه لم أجن من ورائه إلا الإرهاق والتعب والمرض، بينما الأقران، بل من هم أقل عمرا مني، امتلكوا زمام أمورهم، وأتقنوا اللغة واللغتين، وحققوا أمورا ظلت علامات شرف على جبين تاريخهم القصير.
   
في خضم هذه الأجواء الخانقة، حيث تغيب كل المحفزات أتساءل: هل لهذا من معنى؟ وفي حمى هذا الجدل أخمن: هل سأصل؟ هل يمكن أن أكون ذا مال وبنين في قابل الأيام؟ لا إجابة، فالمستقبل مغلق، والنفق حالك الظلمة، أما الأشياء فقد ماتت جميعها في النظر، لكن هل أمل أو أيأس؟ هل أواصل؟ وإلا ما معنى المغامرة؟ وإلا ما معنى أن تضحي؟".