عندما صدح أمير الشعراء أحمد شوقي ببيته الشهير: قف للمعلّم وفّه التبجيلا، كاد المعلّم أن يكون رسولا. آمن المجتمع العربي بدور المعلّم والمثقّف عموما في انتاج أجيال قادرة على صنع الوعي والارتقاء بمجتمعاتها إلى مصاف الدول المتقدّمة. لكنّنا اليوم نفاجئ في كلّ مرّة بظهور كمّ هائل من الكراهية بين مثقّفينا العرب، وغالبا ما ارتبطت المسألة بالخلافات السياسية أو الاقتصادية، بل من نكد الزمان أن وصلت المسألة إلى الرياضة حيث انخرط بعض مثقّفي مصر والجزائر في حملة لتبادل الشتائم على خلفية مباراة الترشّح التي جمعت البلدين ذات ربيع فيما عرف بموقعة أم درمان في السودان.
في مقال له على موقع القدس العربي تحت عنوان بلاغة الكراهية بين الكتّاب التونسيين بتاريخ 17 يناير 2017، كتب الدكتور عبد الدائم السلامي قائلا: غير أن الكراهية بين المبدعين التونسيّين بليغة جدا ولها تاريخ وحاضر مليئان بصنوف من التهجّم على الأشخاص والنيل من خصوصياتهم وتلفيق التهم لهم والحطِّ من قيمة ما يكتبون عبر تقنيات النميمة والشيطنة والتقوّلِ عليهم واستصغارهم.
كانت للخلافات السياسية بين أنظمة بعض الدول العربية دورا في تشغيل محرّك الكراهية بين نخبة تلك البلدان، وربّما كان للنعرة الوطنية أو التقرّب من البلاط أو تصفية الحسابات دورا في ذلك |
من ذلك أن المؤرّخين يرجّحون أن هروب ابن خلدون من تونس إلى مصر لم يكن بسبب رفضه مصاحبة أبي العبّاس سلطان تونس آنذاك في حملاته العسكرية نحو جنوب البلاد وحسب، وإنما كان أيضا بسبب تنامي خلافه مع الفقيه ابن عرفة وأتباعِه حيث تمّ التضييق عليه وكثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات على حدّ ما كتب ابن خلدون ذاته في كتابه التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا.
فالكراهية التي تظهر بين المثقّفين العرب اليوم تدعوك لدراسة أسبابها بعيدا عن الوصاية الأخلاقية، فالموضوع أكبر من حصره في خانة العيب أو الذنب. نقرّ للأمانة أنّ الأسباب كثيرة، ولا يمكن التعرّض لها في مقال واحد، لكن سنسعى للتطرّق لأهمّ الأسباب التي تدفع مثقّفا للتهجّم على مثقّف آخر من المفترض أن تجمعه وحدة العرق والدين واللغة… بل والدم.
أوّلا كما أسلفنا، كانت للخلافات السياسية بين أنظمة بعض الدول العربية دورا في تشغيل محرّك الكراهية بين نخبة تلك البلدان، وربّما كان للنعرة الوطنية أو التقرّب من البلاط أو تصفية الحسابات دورا في ذلك. ثانيا، نجد الغيرة أيضا، وقد تثير هذه الكلمة موجة من السخرية لأنّها ارتبطت بمشاعر المرأة في علاقتها مع الرجل، لكن في الواقع الثقافي يغير مثقّف من مثقّف آخر خاصّة إذا ما حقّق نجاحا ملموسا سواء في مرور كتبه إلى طبعات متتالية أو حصده لجوائز عالمية.. ولعلّ فوز الكاتب الفلسطيني مؤخّرا إبراهيم صنع الله بجائزة البوكر لسنة 2018 عن روايته حرب الكلب الثانية خير دليل على ما ذهبنا إليه.
حيث عرف الوسط الأدبي العربي موجة من الاستنكار والرفض بل والسخرية من فوز صنع الله بالبوكر. حيث عبّر كثير من الكتّاب العرب عن غضبهم من هذا الفوز بطريقة فيها الكثير من التهجّم والكراهية. ومن بين الأسباب لأيضا الاختلاف الأيديولوجي، حيث يقع في خانة الصدام من استعراض للأفكار نزوع نحو استعراض عضلات ممّا يشحن المثقّف ويرى في مثل هذه المناظرة حكاية فوز أو هزيمة.
في الختام، شدّتني حادثة تختلف تماما على ما أشرنا إليه في هذا المقال حيث اختلف كلّ من الكاتب الفرنسي ريمون بيكار ورولان بارط، فأصدر بيكار كتابا بعنوان نقد جديد أم دجل جديد ليردّ فيه عن أطروحات رولان بارط النقدية، ما حدا بهذا الأخير إلى الردّ عليه بكتابه نقد وحقيقة.
فلماذا لا يحذوا مثقّفونا هذا الطريق في الردّ على بعضهم؟