"الكتب حَمَلةُ الحضارة. من دون كتب يصبح التاريخ معقود اللسان، والأدب أخرس، والعلم معوَّقا، والفكر والتأمل في ركود تام"
(باربرا توشمان)
تنظم الكتب والمكتبات المعرفة وتيسر عملية اتخاذ القرار وتدعم تصورات الأفكار الدينية والسياسية عن العالم الطبيعي والاجتماعي. فبحلول نهاية القرن 19 أتمت المكتبات ألفيات ثلاثاً على الأقل من التجريب والتأقلم. فقد تطورت لتصبح مؤسسة تلبي احتياجات اجتماعية أساسية، ومن جملة مسؤولياتها العديدة: المحافظة على المعلومات التي تشكل الأساس للحكومة والاقتصاد وحقوق الملكية والهويتين القومية والإثنية، وترشيد ودعم الأنساق والعقائد والنماذج الإدراكية للعالم والأيدولوجيات، ونشر المعلومات ومؤازرة التعليم والتطور الفكري والتقدم الاجتماعي، ودعم الثقافة..
يمكن التدليل على أن تدمير المكتبات ينطوي على محددات كثيرة بسبب تفاعل قوى عديدة. وفي الواقع فإن تراكب العوامل المؤثرة والظروف الفوضوية غالباً ما يجعل من الصعب تحديد ما إذا كان التدمير غير مقصود أم متعمد. فإن التدمير المنهجي يجب ان ينُظر إليه بوصفه متعمداً ومنسقاً على نحو نسبي. والتدمير إما أن يكون داخلي (داخل أمة واحدة ويتراوح بين أعمال الرقابة على المطبوعات غير المثيرة للجلبة أو الصخب وبين العدوان المتمثل في التخريب أو الاضطراب الأهلي أو الحرب الأهلية أو الإبادة الجماعية) وإما أن يكون خارجياً (كأداة من أدوات الحرب أو الغزو).
دُمرت مئات المعابد والمدارس، وكذلك آثار وكتب يهودية بما فيها زهاء 16 ألف مجلد في مركز الجالية اليهودية في فرانكفورت |
يأتي التدمير العمدي للمواد المكتوبة والمكتبات بسبب وظيفتها المتمثلة في مستودعات المواد التي تُضفي الشرعية على بُنى السلطة القائمة وتصَلُح رموزا وطنية تبرز المكانة والثقافة. فتعمَدُ الهجمات العسكرية في الغالب إلى استهداف مثل هذه الرموز، باعتبار هذا المسلك مبرراً بوصفه حقاً في زمن الحرب. فقد دمر الصينيون مكتبات التبت لأن هذه المؤسسات دعمت هوية تبتية مستقلة قائمة على البوذية، وهي عقيدة مناهضة للتحول الاشتراكي. ودمر الصرب مكتبات المسلمين بسبب الضرورة المتصورة لتنفيذ تطهير إثني.
بدأ توظيف التدمير العمدي للمكتبات والموارد الثقافية الأخرى بوصفه واحدة من استراتيجيات الحرب في القرن العشرين في أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما محا الألمان مكتبة الجامعة في لوفين ببلجيكا التي عُمرت قرونا. وكما يمكن للأيدولوجيات أن تلعب دوراً هاماً في عملية تدمير الكتب والمكتبات، ففي العام 1940 احتلت القوات الروسية دول البلطيق: إستونيا ولاتفيا، ولتوانيا، و "طهرت" مكتبات بيع الكتب والمكتبات العامة، فحرقت الكتب غير المقبولة وحظرت 4 آلاف كتاب وكتيب في إطار عملية تحويل البيئة الثقافية لتتفق مع المعتقدات الشيوعية.
ربما تكون ألمانيا الهتلرية الحالة المثالية التي نستكشف من خلالها تدمير الكتب والمكتبات في القرن العشرين. حيث سعى النازيون إلى الاستيلاء على التراث الثقافي لأعدائهم أو محوه في أثناء موجات العنف الذي سوغته الفكرة الداروينية التي كان قوامها تفوُّق العِرق الآري، حيث استخدم النازيون تدمير الإرث القومي والإثني سلاحاً من أسلحة الحرب، وأداة للإبادة الثقافية أو الحط من قدر الثقافات الأخرى، ووسيلة لبناء مستقبل مصطبغ بالصبغة الألمانية.
حُط من قدر اليهود حتى صاروا "موتى اجتماعياً"، وهي عبارة صكها أورلاند باترسون ليشير إلى الفئات التي منعت من كل حقوقها وسلطتها، فقد طُهرت جميع المؤسسات من الأثر الثقافي اليهودي؛ إذ أحرقت الكتب في أثناء تطهير المكتبات من المحتوى اليهودي؛ وأجبرت المنشورات اليهودية على الاحتجاب، بل إن المجموعات الفنية والعروض الثقافية صٌبغت بصبغة ألمانية، أي أن أعمال الفنانين والمؤلفين الموسيقيين والكتاب المسرحين اليهود قد مُنعت، ولم يسمح للفنانين اليهود بالظهور أمام الجمهور الألماني.
دُمرت مئات المعابد والمدارس، وكذلك آثار وكتب يهودية بما فيها زهاء 16 ألف مجلد في مركز الجالية اليهودية في فرانكفورت. ومع احتلال بولندا في العام 1939، أحرقت مئات الآلاف من الكتب التي تركها اليهود خلفهم نتيجة نزوحهم إلى أوربا الشرقية، وبوجه عام، لم يكن مهمة تدمير الكتب اليهودية سهلة. فبالإضافة الى مكتبات المعابد كان لدى كل أسرة بعض الكتب على الأقل، وضم كل تجمع حضري يهودي في الأغلب مكتبة واحدة على الأقل.
وبعد استحواذ ألمانيا على إقليم زودايتينلاند التشيكوسلوفاكي عقب مؤتمر ميونخ للعام 1938، أسرع النازيون في تطبيق منظومات السيطرة الثقافية، حُملت مجموعات كتب قيمة إلى ألمانيا بما فيها 48 مكتبة من مكتبات الأديرة و42 مكتبة أرشيفية ومتحفية خاصة. وفي المكتبات التي سُمح لها بالاستمرار في العمل دُمرت جميع كتب المكتبات (التشيكوسلوفاكية) المحلية التي تتناول الجغرافيا والتراجم والتاريخ (التي قد تناقض المزاعم والتفسيرات الألمانية)، وأي مواد لا تتفق مع الأيديولوجيا الألمانية وكتب كثيرة لمؤلفين تشيك. وفي منطقة ألزاس لورين التي ضمها الألمان، حيث اعُتبر أهلها من العرق الألماني، أزيلت كل الكتب الفرنسية ودُمر الآلاف منها. وفي لكسمبورغ صودرت المراجع غير الألمانية (أي الفرنسية أو الإنجليزية)، وحلت محلها موسوعات ألمانية.
عندما رحل الجيش اليوغسلافي من ثكنات زادار أمر القادة الصرب بتدمير وإحراق جميع كتب مكتبة الكلية العسكرية التي كانت مطبوعة بحروف لاتينية |
فرض النازيون سيطرتهم على صناعة النشر الألمانية، وأعادوا تدريب القَّيمين على المكتبات وبائعي الكتب، وطَّهروا المكتبات من المواد غير المرغوب فيها والمنحرفة أيديولوجيا، ووجهوا الجهاز الفكري للدولة بكامله نحو إنتاج مواد تروج للرؤية النازية. وفي النهاية انتصر الحلفاء، لكن حتى الهزيمة الحتمية قوبلت باستعراض للوحشية، فوقعت بعض أبشع حالات إبادة الكتب قرب نهاية الحرب. فعلى سبيل المثال، في أغسطس 1944، دمرت الفرق الألمانية مجموعة مخطوطات قّيمة وكتباً طبعت قبل العام 1500 من المكتبة البلدية في ميتس، وفجّرت القوات المنسحبة المكتبة البلدية في دييب، وقبل التخلي عن باريس أحرق الجنود الألمان مكتبة قصر بوربون، وهي مكتبة الجمعية الوطنية، فدمروا 40 ألف مجلد. وفي أثناء انسحاب الألمان من بولندا، أشعلت الفرق الألمانية النار عمداً في مكتبات بولندا الأعلى قدراً، كأن الغرض كان عدم ترك أي مصدر أهمية ثقافية من دون تدمير.
من النماذج الأخرى على تدمير الكتب والمكتبات، هو النموذج الكرواتي، حيث دمر الكروات -على سبيل المثال- معاهد دينية وكنائس أرثوذكسية عديدة. كان أبرز تلك الاعتداءات أن أقامت المليشيات الكرواتية مقر قيادتها في مكتبة (أولد بيشوب) في باكراتش، إذ ألقيت الكتب خارج المكتبة واُحرقت. من ناحية أخرى، كثف الصرب هجماتهم على المواقع الثقافية، ولأن الجيش اليوغسلافي كان عازماً على إضعاف الإرادة الكرواتية على القتال، فقد ألحق هذا الهجوم أضراراً بمكتبات يرجع تاريخها إلى بدايات القرن السادس عشر، ومكتبة الدومينيكان التي تعود إلى القرن الثالث عشر. كما لحقت أضرار بشبكة المكتبات العامة لدوبروفنيك، وهي خمسة فروع تضم 70 ألف كتاب، جاء كثير منها عن طريق تبرعات من جامعي كتب مستقلين مهتمين بدعم مكتبة المدينة.
كما قُصفت مكتبة "زادار البحثية" بكثافة، وقد كانت تضم بين جنباتها 600 ألف مجلد، و5566 مجلة فصلية، و926 صحيفة، و33 كتاباً طبع قبل العام 1500م، و1080 مخطوطاً و1350 كتابا نادراً.. وغيرها من المقتنيات الثقافية. وعندما رحل الجيش اليوغسلافي من ثكنات زادار أمر القادة الصرب بتدمير وإحراق جميع كتب مكتبة الكلية العسكرية التي كانت مطبوعة بحروف لاتينية (ويستخدم الصرب حروفاً سيريليكية). جمعت الآلاف الكتب في أكوام في ساحة الكلية العسكرية، ونضحت بالغازولين، ثم أشعلت النيران فيها؛ فاحترقت لأيام.
وفي هذه المدونة، نكتفي لهذا الحد، ولربما تكلمنا في مدونة أخرى عن بعض النماذج المشابهة في تدمير الكتب والمكتبات، وكما أنه تجدر الإشارة إلى أن هذا الكلام هو من كتاب "إبادة الكتب" الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية برقم 461، مع بعض التصرف والتنسيق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.