شعار قسم مدونات

واقع الأمة الإسلامية بين الحقيقة والانحياز

blogs - القدس

يوم يصبح الدين -على يد من يتحدث بإسمه- مرادفًا لجمود الفكر والإنعزال عن حركة الحياة وواقعها ورجوعًا إلى الوراء وانتكاسًا شاملًا في كُلّ الميادين الماديّة والأدبية، فلا لوم على العقلاء إذا نبذوه وهاجموا تعاليمه.. إنّه وقتئذٍ لن يكون دينًا من عند الله، بل ميدان يتناوشه ثلّة من قاصري الفهم وضعفاء النظر، ولذلك فإننا ندعوا إلى حربٍ شاملة على الكهانة والجهل وكافّة الأدواء والرذائل التي أصابت بعض دعاة الإسلام، إذ أنّ الهزائم التي لحقت بنا في ميدان الثقافة والفكر أخزى وأنكى من الهزائم التي لحقت بها في ميدان السياسة والحرب.

إنّ بعضًا من دعاة الإسلام اختزل الدين في علاقة ضميرية روحيّة بيّن العبد وربّه، وفصله كلّ الفصل عن باقي مناحي الحياة السياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة، ونحن كما نحارب من يعتقد هذا يقينًا من العلمانيين والمتغرّبين، فإنّه من الأجدر بنا أن نحارب من يختزل الدين ويسطّح قضاياه جهلًا في زوايا ضيّقة، إذّ لا مكان للإسلام عندهم إلّا في المساجد والربّط والتكايا.. إنّ هذه الثمرة المرّة التي بلينا بها في واقعنا الإسلامي، جاءت مباشرةً من شجرة حملات التغريب والتشويه فكانت مثالًا عمليًا لها، ولكن من دعاة الإسلام أنفسهم!

إنّ بعضًا من دعاة الإسلام لا يفقه من هذه السنن شيئًا، ولا زال يُحدّث الناس بلسان أهل القبور، وكأنّه لا يعيش في عصره ولا يعرف عن مشكلات أمّته وواقعهم شيئًا، ثقافته قديمة ومفرداته قديمة

انقضّت علينا الأمم يوم أنّ فقدنا أسباب البقاء فألقت بنا صرعى لا نلوي على شيء، وغَلَبتهم علينا لم تكن محض صدفة عارضة، إنّما هي نتيجة جبرية لها مقدماتها.. لقد نجح المسلمون الاوائل في مدّ شعاع الإسلام وجمع الناس حول أنواره يوم حازوا على أسباب ماديّة وأدبيّة في الوقت الذي صَفِرت منها باقي الأمم، فكان حقًا على الله أنّ يمكّن لهم وأن ينصر الإسلام بهم، ويوم أنّ فقد المسلمون هذه الأسباب في الوقت الذي نالها غيرهم، فأيّهم يستحق الغلبة؟!

وأثناء تنقلنا بين الكتابات الحالمة والمقالات الرومانسيّة والخطب الرنانّة، فإننا نرى الواقع أبعد بكثير عن نزعة التفاؤل والأمل، ونحن بحاجة إلى أن نُشخّص عيوبنا، وإلّا فإنّ تجاهل الحقائق قد يودي بنا ويستأصل ما بقي لنا من شأفة.. إننا نعاني الجهل والفوضى، والنكوص في كافّة الميادين الماديّة، والحقّ أنّ الواحد منّا إذا نظر إلى انتاج قومه ماديًا وعلميًا اسودّ وجهه في المشارق والمغارب، إذّ أننا لا نزال نزحف كالأطفال في ميادين خطّت فيها اقدام العمالقة، وكما أننا نعاني تلك الرذائل في ميدان العلم والتقدّم الصناعي، فإنّ الرذائل التي أطاحت بنا في ميادين التضحيّة والإيثار والكفاح والخلق الشخصي لا تقلّ عنها في الميادين الأخرى.. فمن أجل أيّ شيء إذًا ينصر الله الفوضى على النظام والجهل على العلم ونوازع الأَثَرَة على الإيثار وبرودة العاطفة على حرارتها؟!

يقول مالك بن نبي في شروط النهضة: “إنّ للتاريخ دورة وتسلسلًا، فهو تارة يسجل للأمة مفاخر عظيمة ومآثر كريمة، وهو تارة يلقي عليها دثارها، ليسلمها إلى نومها العميق، فإذا ما أخذنا هذه الملاحظة بعين الإعتبار، تحتّم علينا في حلّ مشكلاتنا الإجتماعيّة أن ننظر مكاننا من دورة التاريخ، وأن ندرك أوضاعنا، وما يعتورنا من عوامل الإنحطاط وما ننطوي عليه من أسباب التقدم، فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا”.

إنّ الجهل بسنن الله في أسباب النصر والهزيمة والتقدّم والإنحطاط جريمة كبرى، وحريٌ بنا أنّ نقف أمام هذه الأسباب فنصوّبها لنمسح السواد الذي اصطبغت به وجوهنا من جرّاء الهزائم التي أطاحت بنا شرقًا وغربًا.

إنّ بعضًا من دعاة الإسلام لا يفقه من هذه السنن شيئًا، ولا زال يُحدّث الناس بلسان أهل القبور، وكأنّه لا يعيش في عصره ولا يعرف عن مشكلات أمّته وواقعهم شيئًا، ثقافته قديمة ومفرداته قديمة، والقضايا التي يطرحها أكل الزمان عليها وشرب بل وانتهت بكلّ ملابساتها الدينية والفكرّية والسياسيّة، فما شأننا نحن بها؟!

ما أصاب الإسلام في عصرنا هذا لا يُسأل عنه اعداؤه قدر ما يُسأل عنه ابناؤه، فكيف إن كان العليل مخدوعًا لا يدري أنّه عليل؟

وبعضًا من دعاة الإسلام يختزل أسباب الهزيمة في بعد الناس عن دين الله، وهذا صحيح، ولكنّ اختزال القضية في هذا الجانب تسطيح للمسألة وهو أقرب إلى التواكل والدروشة.. هب أنّ المساجد زحمت بآلاف المصلين وحفظة القرآن والمتون، ولكنهم في ميزان القوّة الإقتصاديّة والعلميّة لم يجاوزوا خانة الأصفار، فكيف سيكون حالهم إن وقعوا في مهبّ الريح؟

وبعضًا من دعاة الإسلام يستميت في الدفاع عمّا هو مختلف فيه ويترك ما هو متفقٌ عليه، وينشغل بالفروع عن الأصول، وبالجزئيات عن الكليّات، وبالقشور عن اللباب، وكأنّهم لا يعرفون عن فقه الأولويات شيئًا.. فلا زلت ترى أنّ السجالات والمعارك دائرة الرحى حول قضايا لا طائل منها، أمّا القضايا المفصلية والمصيرية فلا تكاد تذكر أو تستحضر.

ارجو أن لا يُفهم مما سبق أننا نزدري أمّة نحن منها، نرتفع بها ونرقى من خلالها.. إنّما هي محاولة لتسليط الضوء على بعض الأدواء الدفينة التي استشرت في أوصال أمتنا، والحقّ أنّ ما أصاب الإسلام في عصرنا هذا لا يُسأل عنه اعداؤه قدر ما يُسأل عنه ابناؤه، فكيف إن كان العليل مخدوعًا لا يدري أنّه عليل؟ ونحن إن لم نعالج أسباب التلف والوهن والعجز المبعثرة بيننا فهيهات أن نتقدم أو ننتصر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.