شعار قسم مدونات

المهاجر العربي بين الوفاء و النسيان

blogs - سفر

الهجرة عبر التاريخ كانت آخر حلول الحاملين لفكرة لم تسعهم أرضهم لتحقيقها فاختاروا أن يرعوا أفكارهم وأنفسهم بعيدا ومن ثم العودةَ بقوةٍ أكبر ليغيروا ما عجزوا عن تغييره وهم في أوطانهم. أو ربما كانت هي الخيار المُر للبحث عن لقمة العيش، ولو أن الأوطان آتت شعوبها أرغفة تكفيها ما غادرتها ولاشترت البقاء فيها بهذا الثمن الزهيد.

 

كانت الهجرة قدرا يحتاج إلى نفس قوية لتتحمله ولا تزال.. فصُوَر الذين هُجروا قسرا اليوم من أوطانهم لا زالت تحمل نفس ذلك البؤس القديم وكذلك فرحة العودة ولهفة اللقاء. أما الذين اختاروا الهجرة بقناعةِ أن هذه الأوطان لا تليق بهم، فالمشهد لديهم يختلف كثيرا، اذ تراهم يجلسون على ضفاف أنهار أوروبا وأمريكا يتفاخرون بمجد لم يصنعوه ولم يكونوا يوما جزءا منه.

 

هم يصفون الشوارع النظيفة ونسوا أنها كانت نظيفة من قبل أن يحل مثقفونا هناك، ويمجدون الادارات الراقية وغفلوا عن أن تلك الادارات لم تحتج إلى كفاءات العرب لتبلغ ذاك الرقي.

 

أجدادنا غير المثقفين وغير الحاملين لشهادات عليا، أفنوا أعمارهم لكي يسترجعوا أرضا أرادت بلدان الأنوار أن تضمها إلى خارطتها. وعندما سلمونا اياها أرضا محررة اخترنا نحن الرحيل

هم فقط اختاروا أن ينعموا بخيرات أراض بُنيت على أيادي الغير .. وفَتحوا على أنفسهم أبواب مقارناتٍ يلعنون من خلالها بلدان الظلام التي آوتهم صغارا. وعندما استوى فكرهم واشتد عودهم تجاهلوا نداء هذه الأوطان طلبا للنور وانصرفوا هم إلى أرض الحضارة.. ولو أن تلك الأرض نفسها تعرضت لأزمة لتركوها وانصرفوا يبحثون عن النعيم في غيرها.. نعيمٌ جاهز دون تعب.. لماذا لا يبحث العربي عن مخرج غير اليأس والهروب؟ فهو، وان عرف أسس العيش الكريم، فسيختار الهجرة اليه لا العمل على تغيير الباطل حوله.

 

ربما غفلنا عن أن أكثر بلدان العالم حضارة اليوم مرت بأوضاع أسوأ من تلك التي نمر بها الآن وقد كان لشعوبها نفس خيار اليأس والهروب ولكنها لم تفعل فكتبت بعزمها تاريخا جديدا يليق بطموحها. ولعلنا نسينا أن التاريخ قد علمنا بذلك أن ما من أرض كتب عليها أن تعيش نورا أو ظلاما إلى الأبد. فلا ندري متى تستبدل القوة ضعفًا والضعف قوةً.

 

كُتُبُ الأمجاد نفسُها لم تخلد أسماء الذين لعنوا بلدانهم من خارج حدودها انما خلدت أسماء الذين حاربوا الظلام ولو بشمعة.. لقد خلدت أسماء كل من اختار الطريق الصعب إيمانا وثقة بأنهم خلقوا على هذه الأرض المظلمة لسبب ما.

 

أجدادنا غير المثقفين وغير الحاملين لشهادات عليا، أفنوا أعمارهم لكي يسترجعوا أرضا أرادت بلدان الأنوار أن تضمها إلى خارطتها. وعندما سلمونا اياها أرضا محررة اخترنا نحن الرحيل.. نحن المثقفون خريجو الجامعات. نحن جيل يحمل شهادات عليا ويفتقر لايمانٍ كايمانِ العجائز لا يُلقن في المدارس الحديثة.

 

فاز أجدادنا في حرب البنادق واستسلمنا نحن في حرب الحضارة. هم رضوا بالحصير وبعض الخبز واتخذوا من الجبال بيوتا ليكسبوا الحرب أما نحن فتوهمنا أن شهاداتنا الجامعية أسقطت عنا واجب الصبر وفرض التغيير والعطاء.

 

أرض الله واسعة لمن ضاقت أرضُه بدينه ولمن يبحث عن أفكار جديدة ليقيم ما اعوج في بلده. وتلك الأرض ستكون شاهدة على كل من خان أمانة افتُكت بالدم وفُرط فيها براتب دُفع بالعملة الصعبة.

 

لكل أمة استفاقة آتية لا محالة، ولكل فرد منها الخيار، فاما أن يكون جزءا منها من داخل الوطن أو خارجه وأما أن يسجل نفسه في صفوف اللاجئين وان تهيأ له عكس ذلك. فكل من لا يحمل مشروعا وهدفا يغير به واقعه، لاجئ.. رفض أرضه فرفضته، محاها من تاريخه فمحته. أما المجد فسيبقى للذين جاهدوا من أجل أوطانهم بالفكر والساعد ومن أي مكان على سطح الأرض. سيبقى المجد للذين اختاروا البقاء للاصلاح وللذين هاجروا ليقدموا لأوطانهم ما عجزوا عن تقديمه وهم داخله. المجد لكل من لم يخن ولم ينس في أي مكان وزمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.