"ليست الكتب جمادات لا حياة فيها، بل هي وعاء لقوة حياة كامنة، اُريدَ لها أن تكون فاعلة مثل الروح التي أنجبتها"
– جون مِلتون.
تقع الكتب والمكتبات بين الحين والأخر ضحية للكوارث، فهي، في النهاية أشياء مادية هشة. على سبيل المثال اتلفت الفيضانات التي اجتاحت فلورنسا في العام 1966 قرابة مليون كتاب، كان العديد منها مخطوطات نادرة وثمينة. وفي العام 1988 التهمت نيران مدمرة زهاء 3.6 مليون كتاب في مكتبة أكاديمية العلوم في لينيغراد. يذهب قاموس أكسفورد في تعريفه "إبادة الكتب" إلى وصفها بأنها مصطلح نادر يشير من دون لبس إلى "تدمير الكتاب". كما، ويبدي كثير من الناس تأثراً عميقاً إذا نمى إلى علمهم تعرض الكتب والمكتبات لدمار عنيف، حيث يرتبط بإدراكهم أن الكتب والمكتبات هي نسيج الثقافة النابضة بالحياة؛ لذا فإحراق الكتب (إذ في الأغلب ما يكون إحراقها وسيلة إفنائها) ينتهك مُثُل الحقيقة والجمال والتقدم بل الحضارة ذاتها.
ويرسم التاريخ المدون علاقة واضحة بين اضمحلال المكتبات وتحلل الحضارة. فالمكتبات تزدهر أحسن ما يكون ازدهارها عندما ترتقي الحضارات إلى ذرى الثقافة الرفيعة، بينما يقوض تدميرها آمال البشرية في التقدم، فإذا ما حدث التدمير على نطاق واسع أعاد هذا الى ذاكرتنا تلك القدرة الكامنة في كل مجتمع والنزاعة نحو تدمير الذات. وكما أننا، نقر، ربما من دون وعي، بأنه حيثما ظهرت الآداب فثمة حضارة إنسانية، ومن دون الكتب تترنح الحضارة.
دُمرت المكتبات الكبرى في العالم القديم من جراء اندلاع النيران فيها، أو وقوع كارثة، أو حرب، أو تفجر صراعات داخلية، وأخيراً بسبب هجمات بربرية |
وصلت إلينا معرفتنا بالنصوص المبكرة في شكل شذرات تاريخية: رسومات غريبة على جدران الكهوف والمقابر والقصور، وقطع من ألواح طينية ومسلات وأحجار متنوعة. ومن بين أوائل المكتبات المعروفة تاريخياً المكتبة المصرية التي يرجع تاريخها إلى نحو العام 3000 ق.م. بحلول ذلك الزمن كانت اللغة المكتوبة قد تطورت، وكان الكتبة المدربون ينسخون المدونات في أرشيف. وتطورت مكتبات المعابد والقصور مع زيادة تعقد النصوص الدينية والحكومية وظهور أدب دنيوي. وقد أدت النصوص والمكتبات عبر التاريخ دوراً مهماً في حفظ المدونات الدينية وسجلات السلالات الحاكمة وفي دعم الأنشطة الضرورية لإدارة الإمبراطورية. وقد اتسع نطاق هذا الدور حيث أصبحت مجموعات النصوص تدعم البنى اللازمة للدراسة العلمية والأنشطة الفكرية الأخرى للحضارات المتقدمة.
دُمرت المكتبات الكبرى في العالم القديم من جراء اندلاع النيران فيها، أو وقوع كارثة، أو حرب، أو تفجر صراعات داخلية، وأخيراً بسبب هجمات بربرية، ولحسن الحظ، كوَّن الأثرياء في أوج الإمبراطورية الرومانية مكتبات خاصة، لاستخدامهم الشخصي أو لاكتساب منزلة رفيعة، وربما يرجع الفضل في حفظ الأدب الروماني الكلاسيكي الذي بقي بعد سقوط روما في العام 476م للمكتبات الخاصة الرومانية.
أما في الشرق فعلى رغم أن مراكز المعرفة اليونانية المتقدمة سقطت بأيدي المسلمين فإن قدراً كبيراً من الأدب الكلاسيكي حُفظ ونِقُل إلى العربية. وفي القرنين 12 و13 انتقلت المعرفة من العالم العربي وكذلك بيزنطة إلى الغرب عن طريق الحروب والتجارة. كان مصير المكتبات متقلباً على الدوام في أثناء فترات انعدام الاستقرار السياسي. أما الحرب فكانت حتماً تسبب دمار المكتبات، وحُمِلت الكتب والمواد المطبوعة على نحو منتظم باعتبارها غنائم، مثلما كانت في الأغلب وليمة لنيران المقاتلين. ففي بريطانيا في القرن الـ 16، في أثناء فترة الإصلاح البروتستانتي، وقعت عمليات نهب وإفناء لمكتبات الأديرة على نطاق واسع، وتُقدر نسبة المجلدات التي كتُبت لها النجاة من أيدي مؤيدي الإصلاح الديني بنحو 2 في المائة فقط من أصل 300 ألف مجلد في أكثر من 800 مكتبة بالأديرة.
وفي ظل نظام بول بوت لم تجد الحكومة الكمبودية أدنى حرج في تدميرها للكتب والمكتبات، بل في قتل جميع الأشخاص الذين كان بإمكانهم القراءة أيضاً. عندما تُكتب للكتب والمكتبات النجاة من الهلاك الذي تفرضه الحروب والأيديولوجيا السياسية عادةً ما يكون ذلك إما عن طريق الجهود التراكمية لأفراد شغوفين بها، وإما عن طريق جهود لمجتمعات تقدر جلال الوظائف والأدوار التي تؤديها هذه الأوعية الثقافية.
وبسبب التخريب المتعمد للمكتبات، غالباً ما آل أمر مقتنيات الكتب الخاصة والدينية إلى ملكية الدولة، وفي نهاية الأمر صارت في متناول أيدي الجماهير. في أثناء الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، استولى الثوار على مجموعات كتب اليسوعيين وكتب الأديرة ومدارس الكاتدرائيات والكنائس والنبلاء. وأعلن أن 8 ملايين كتاب مُصادرة قد أصبحت مِلكية وطنية، واعيد توزيعها لتكوين شبكة من مكتبات البلدية تتمركز حول المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس.
تحرص جميع الثقافات على حفظ أشياء من ماضيها. ويعبر هذا المنحى عن اعتقاد أن معرفة الماضي يمكن أن تعود علينا بالنفع. فإذا كانت معرفتنا بمجتمعنا وأنفسنا تحرز تقدماً عن طريق دراسة الماضي، فقد يحاجج المرء بأن قيمة التاريخ تكمن في أنه يعلمنا -بدراسة ما فعله الإنسان- من هو الإنسان؟ تعيش كل الحضارات مثل كل البشر، جزءاً من حياتها العاطفية في الماضي، وإبداع الماضي وإعادة إبداعه عن طريق ذكريات اصطبغت بصيغة مؤسسية هي إحدى المهمات المركزية والدائمة للحضارة.
من دون السجلات المكتوبة قد تضطر المجتمعات التقليدية التي تفقد الاتصال بماضيها الثقافي إلى مكابدة إعادة تشكل مؤلمة للغاية كي تصوغ هويتها القومية. تٌعدُّ تِمبوكتو، وهي حضارة في غرب افريقيا وصلت الى ذروة تقدمها في أثناء إحياء فكري وأدبي في القرن السادس عشر ثم اضمحلت، مثالا لبلد قيل ان مكتباته حَوَت الأدب العربي بكامله تقريباً.
وهنالك أيضاً، الحركة المعاصرة للأمريكان السود الرامية إلى جمع الدلائل على المنجزات التاريخية للسود. كان آرثر ألفونسو شومبرغ، الذي شكلت وثائقه ونصوصه نواة مجموعة تاريخ السود بمكتبة نيويورك العامة. حيث أدرك شومبرغ أن "الزنجي كان إنسانا بلا تاريخ لأنه نُظر إليه باعتباره إنساناً بلا ثقافة ذات شأن". إن تدمير الكتب والمكتبات آلية يسعى عن طريقها نظام سياسي ما، وأتباعه الواقعون تحت تأثير إغراء عاطفي لذاكرة جمعية مشوهة، إلى اضفاء شرعية على هيمنتهم على أقليات متنافسة أو تأكيد مزاعم بأحقيتهم في اقليم أو موارد.
وإلى هنا، نكتفي -لضيق المقال- إلى هذا الحد، حيث سنكمل هذه المدونة بعدد أخر وربما أكثر، وسنكتفي بهذه المدونة -كمقدمة- لما سيأتي ذكره -إن شاء الله تعالى-، وكما أنه يجب التنويه إلى أن هذا الكلام هو من كتاب (إبادة الكتب) الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية برقم 461، مع بعض التصرف والتنسيق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.