شعار قسم مدونات

السياسة كمعول هدم في المجتمعات الجاهلة

blogs اليمن

منذ سن الثالثة عشر، كنت مهتما بالشؤون السياسية المحلية والإقليمية والدولية، رغم أن فتىً مثلي يتوجب عليه الاهتمام بشؤون أخرى كالكمبيوتر، وكرة القدم، والرسم، وتعلم اللغات المعاصرة، وغيرها من المجالات التي تحقق للفتى ذاته، وترسم خيوط مستقبله مقارنة بنظرائه من أطفال العالم. لم يكن هذا الحال حكرا على الصبي الذي كنته، بل إنه نموذج لواقع آلاف الصبية في بلدي الموبوء بداء السياسة، استدرجتنا السياسة إلى مجالس الكبار، وسرقتنا الوقائع العصيبة على وطننا العربي من براءتنا، وبتنا أكثر اهتماما بالسياسة من الكبار أنفسهم، لدرجة أننا نحن الصغار كنا نغطي غياب الكبار أمام المحطات الإخبارية، التي تغطي الأحداث المهمة لنا كعرب، حتى إنني أذكر كيف كنت أغطي كل جديد بشأن الغزو الأمريكي للعراق، من أجل موافاة أبي بتلك المستجدات، كون عمله لا يسمح له بمتابعة أي وسيلة إعلامية حينذاك.

 

وبالتالي زاد اهتمامي بالأخبار السياسية، كيف لا وقد أصبحت المصدر الأساسي لمستجدات الأحداث بالنسبة لوالدي، الذي لم يظهر أي تشكيك في الأخبار التي أنقلها إليه، طوال أوقات عمله، الأمر الذي جعلني أتقمص شخصيات من أشهر مراسلي قناة الجزيرة الإخبارية، كالشهيد طارق أيوب، الذي طالته غارات الطيران الأمريكي أثناء تغطيته لوقائع المعارك بين قوات صدام وتحالف الغزاة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ووليد العمري، وفايد أبو شمالة، وشيرين أبو عاقلة، وغيرهم من فرسان الكلمة الصادقة.

شغلتنا السياسة نحن اليمنيين، ودفعتنا إلى التبتل في محرابها المشؤوم، ومزقتنا إلى طوائف، وأحزاب، وكتل دهماوية تكن العداوة والبغضاء لبعضها البعض، دون مراعاة لواحدية العقيدة والهوية والانتماء

ذلك الاهتمام الكبير، الذي أوليناه كصبية يمنيين للسياسة يرجع إلى المآسي والنكبات التي مرت على المشهد العربي منذ عقود مضت، كنكبة 67، وخسارة جزء كبير من فلسطين في 48 لصالح الكيان الصهيوني، مرورا باحتلال العراق في 2003، ووصولا إلى الأزمات الملتهبة في سوريا، وليبيا وبلادي اليمن في الوقت الحاضر، وربما يرجع لشحة مصادر المعرفة، وقلة الإمكانيات العلمية، التي بمقدورها أن توفر خيارات مهمة للمواهب الناشئة، والشابة وتدفعهم لخوض تجارب مفيدة في مجالات علمية وأدبية تصنع منهم كوادر مهمة في فضاءات الحياة المختلفة مستقبلا.

عندما كبرت اتضح لي أن السياسة لا تعني تلك الأخبار التي أغطيها من أجل والدي، بل أدركت أنها واحدة من أكبر مجالات الحياة، وأكثرها تعقيدا وغموضا، وأخطرها توجها وانتهاكا للحقوق، وسفكا للدماء، ومع ذلك لم أكلف نفسي تبعات الانصراف عن متابعة هذا الحقل المليء بالتناقضات، والمخاطر، كما هو حال أقراني في البلاد بأسرها.

مرت السنوات وأصبح الحديث في السياسة مدعاة تفاخر في مجالسنا، ونقاشاتنا، وبتنا نصنف انتماءات الناس السياسية وفقا لخُطَبهم وأنشطتهم، وعندما وصلنا إلى مقاعد الدراسة الجامعية كان سماسرة الأحزاب ومندوبيها أول من عرض علينا المساعدة في إنجاز خطوات التسجيل، وتقديم الإرشادات اللازمة لاجتياز اختبارات القبول، وهذه كانت من أهم الطرق التي تتبعها الأحزاب في اصطياد الشباب والمثقفين، وإيقاعهم في شرك الحزبية، واستخدامهم لاحقا كأذرع سياسية تخدم مشروع الحزب سياسيا، تهاجم الآخر، وتحرض عليه، وتعاديه بشتى السبل الممكنة وغير الممكنة، وما تعانيه البلاد اليوم من أزمة سياسية، وانهيار مقومات الدولة، لم يكن إلا ثمرة لعفن السياسة غير المرشدة.

في الدول المثقلة بالجهل والمرض والفقر، لم تكن السياسة سوى طريقا لإشعال الحروب، وبث الفتن، وسفك الدماء، ولنا في شرقنا الأوسط، والمجتمعات الأفريقية أسوة
في الدول المثقلة بالجهل والمرض والفقر، لم تكن السياسة سوى طريقا لإشعال الحروب، وبث الفتن، وسفك الدماء، ولنا في شرقنا الأوسط، والمجتمعات الأفريقية أسوة
 

شغلتنا السياسة نحن اليمنيين، ودفعتنا إلى التبتل في محرابها المشؤوم، ومزقتنا إلى طوائف، وأحزاب، وكتل دهماوية تكن العداوة والبغضاء لبعضها البعض، دون مراعاة لواحدية العقيدة والهوية والانتماء، حتى وصل الحال ببعضنا إلى إقامة علاقات سياسية عابرة للحدود والبحار، وتوظيفها ضد بعضنا البعض، بغية إلحاق الضرر بالآخر.

من الطبيعي أن نحصد كيمنيين البغضاء، والتناحر فيما بيننا بفعل السياسة اللعينة، ذلك لأن السياسة عندما تستشري في مجتمع يرزح تحت وطأة الجهل، ستفضي إلى خلق بؤر من الأزمات، والمشاحنات بين القوى السياسية على مستوى الداخل، وستعمق الشرخ بين الفرقاء، وبالتالي من السهل أن ينقادوا إلى ميادين القتال ضد بعضهم البعض، لا لشيء سوى رغبة الانتصار على الآخر، وقمع حقوقه في الاختلاف بكل السبل الممكنة بما في ذلك استخدام القوة، كما هو الحال في عموم البلاد اليوم.

في الدول المزدهرة علميا وفكريا وثقافيا، كانت السياسة أداة للتنمية، ووسيلة للتعبير عن حقوق الإنسان في الرأي، والحياة والأمن، والانتماء الديني والسياسي، بينما في الدول المثقلة بالجهل والمرض والفقر، لم تكن السياسة سوى طريقا لإشعال الحروب، وبث الفتن، وسفك الدماء، ولنا في شرقنا الأوسط، والمجتمعات الأفريقية أسوة، نستدل بها على حجم الكوارث التي خلفتها السياسة على الشعوب الموبوءة بالجهل، ومن هنا نستنتج أن ثمة علاقة طردية بين التنمية والازدهار، والوعي السياسي فيها، إذ أن زيادة الوعي السياسي، وترشيد العمل السياسي، يقابله زيادة في التنمية والتقدم على مختلف الأصعدة في المجتمع، والعكس.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان