ما من خصوصية فذة في التاريخ البشري اقترنت بمقاومة ظلم المحتل، كتلك التي لازمت المقاومة العراقية في ملحمة التحدي والمنازلة الكبرى لعنجهية وصلف العم سام، ومن خلفه طغاة الأنجلو ساكسون في واحدة من وقائع الأمة الخالدة على نهر الفرات، استوحت إحداثيات أمكنتها من ثرى فلوجة النصر العظيم، في ذكرى فارقة مدى الدهر ولسان حالها: أقسمنا على أن تحيى الفلوجة محراباً يضيء قناديل الزمن الآتي، وقد توهجت صفحاتها بدماء الثائرين، فكان قدرهم أن ولدتهم المقاومة تبدد عتمة ليل الظالمين، يوم أن انطوت على آخر فدائي في أمة غفت وقد انبثق من ركامها فتية آمنوا بربهم، تاركين خلفهم من نكص على عقبيه وتولى يوم الزحف، لتهوي بأسطورة علج لا يهزم، ورهانها قسما سنسقي النهر احمرارا من الدماء لا زرقة للحبر فيه، بأسياف بتارة أصدق إنباء من الكتب، تنساب مع صفحة الفرات لتنادي أبناء أم المساجد، وتتصدى للشيطان جورج ولسحرته بلاك ووتر.
في حرب عصابات وكمائن نهجها كر وفر يلازم بدائية ذات شجاعة نادرة وإن أقحمت نفسها في صراع مع هالة التكنولوجيا! تعاين خلف قضبان أبو غريب أحرارا في قبضة علج رومي أو حفيد لغساسنة ومناذرة جدد قدموا على ظهر دبابة، ونسوا أنه ليس في قاموس أم المساجد خنوع ولا استسلام، يؤازرها كل شرفاء العالم، وسرعان ما طاولت نجمة صاعدة في سماء الإنسانية.
يومها علا رجع الصدى لقول قائلهم: حيّا الله أهل الفلّوجة الكلهم شجعان ما دنّوا راس ولا ذلّوا للأمريكان كانوا أحرارا بتلك القيود في مثلث سني انطوى على دفء الحياة غير عابئ بالفيافي، وما استطاب عيش العبيد، بل نسج بالدم قوافل الأحرار في مطلع القرن الجديد، يرسخ كل حين نتاج الوعي ووعي النتاجات وينقش فصول تاريخ أعاد نفسه، فمنهم شاب قلبه معلق بالآربي جي، ومنهم قارئ يتدبر آيات من الذكر الحكيم، ومنهم طريد تلاحقه جغرافيا اليتم، خذلته عند الصباح قبائل الدولار، ومنهم عابر سبيل في متاهات تناثرت عبر الأوطان، ومنهم رجع الصدى لشهادة ينطقها الشهيد على خشبات المقصلة، أو مقاوم في أقبية الجلاد، ذاق جحيم عذابات الغساسنة قبيل الغروب، فأقبل كموج بحر أرخى سدوله، يصخي السمع لصهيل خيله في مؤتة، نداؤها أكلنا يوم أكلت حواضر الأنبار، لم يدبر أحد منهم بل أوغلوا في جراح العدو، كانوا كسنديانة تموضعوا على تلال الرماة، لم تتخطفهم شهوة أو نزوة أو متاع، بايعوا بيعة طاب الموت يا رفاق ويد الله فوق أيديهم، وأقسموا لن نساوم، وسيصلى مسيلمة نارا لقاء يوم ردته.

الروح تعانق السماء، ومن خلفها ثبات تكفل بالصواري لئلا تتكسر في ملحمة الصبر العظيم، فلا بد من مؤتة وإن طال السفر! عجيب أمرك أيها الشهيد كيف بعد شهور، رمقوا سبابتك تحت كرامات الركام، أشهيد أنت لم تتسع ليقينه كلمات الدنيا، وما خطت الدروب على جنباتها باسمه ذات صباح على مدخل زقاق: الموت ولا المذلة، أفارس أنت نسيج وحده، يسبق موته بخطوة، باعه أخوته بثمن بخس، وكانوا فيه من الزاهدين، مرة ساجدا خلف ستار ترابي وأخرى مكبّراً تحت القاصفات، وثالثة في خطوط الإسناد ورابعة وهو يعد لقيمات يسددن جوف الرفاق، وخامسة تحت مئذنة لم يبجلّ قداستها العدو، وسادسة مكبلا في تورا بورا بزيه البرتقالي، وسابعة وهو يحتضر في ميادين المثلث السني، أو يبني لشهيد شاهدة رمسه، وثامنة اغتالته إذاعات الردة، وهو يردد أقيموا بني يعرب صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل.
حل الشطر الثاني من رمضان وبدأ المحافظون الجدد هجومهم بمراحله: حصار صليبي فقصف جوي، ثم نصبت شباك الخداع و لعبة التفاوض لتعيد تشكيل القناعات بعد تواطئ الطابور الخامس، لجس نبض رجالات المقاومة على الأرض، والسعي لشراء الوقت، ثم بأسراب من غربان الشر العمودية والمقاتلة، تتبعها دبابات الإبرامز والهمرات وعربات الهامفي والمدافع الثقيلة والصواريخ، أما رجالات المقاومة فقد ابتكروا مصيدة الابرامز عبر متفجرات الطريق المتحكم بها عن بعد وقذائف الآربي جي سفن مستنسخين مقاومة الفيتنام، واستماتوا بطابع قتالي للرمق الأخير، وتكتيكات تمر عبر كرامات الشهادة.
لم يكن هناك ثمة شك في إفلاس العم سام وعودته بخفي حنين، فحينها ألزم نفسه بأسلحة الدمار الشامل، للنيل من أيقونة المقاومة في العالم، فلوجة العز بقنابله العنقودية وغازاته الخانقة، وكشف عن وجهه القبيح بفسفوره الأبيض وأسلحته الكيمياوية، مستهدفا المساجد ورجالات المقاومة والنبات والحيوان. وبعد عامين عثر على جثث من أكرمهم الله بالشهادة احتسابا لا تزكية، سليمة كما لو أنهم استشهدوا للتو، فسبحان الله القائل "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" وسلام عليك يا فلوجة العز.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.