شعار قسم مدونات

غابرييل جيسوس.. التجلي الثالث للمسيح

مدونات - غابرييل جيسوس
المشهد الأول.. ريو دي جانيرو 1950

هل يمكنك تخيّل صخب 200 ألف شخص يحتفلون؟ فرحة عارمة مجنونة تجتاح كل الموجودات، فتغمر شوارع ريو دي جانيرو، على مرأى من تمثال يسوع المسيح الذي يحرس المدينة. مشهد مهيب استعد له الجميع فور إعلان حق البرازيل في تنظيم مونديال 1950. مشهد يمكنه أن ينسي الفقراء جهادهم اليوميّ من أجل الطعام، ويمنح الضعفاء انتصارًا لا تمنحه الحياة العادية.

ومن أجل التجهز لذلك المشهد شيّد البرازيليون أكبر إستاد بالعالم؛ ملعب الماراكانا. وشارك الجميع في تهيئة الشوارع المؤدية له وتنظيفها وتزيينها. وشعر هؤلاء الفقراء والضعفاء أن القدر قد منحهم لحظة الاحتفال من قبل أن تأتي. وكان خبر تنظيم البرازيل للمونديال هو بمثابة بداية العد التنازلي لتتويج هؤلاء بكأس اللعبة الأكثر شعبية في بلادهم.

وفي الملعب كان لاعبو المنتخب، الذي اختار الأبيض لونًا له، على قدر طموحات الجماهير. فاجتاحوا المكسيك في الافتتاح برباعية، ثم واصلوا المشوار بثقة وانتهكوا إسبانيا القوية بسداسية وقبلها كانت السويد التي سكنت مرماها سباعية برازيلية. ثم جاءت اللحظة الأخيرة أمام أوروغواي. ولكن المشهد الذي استعد له الجميع لم يتحقق.

ربما سوف يجد غابرييل جيسوس نفسه منفردًا بمرمى خصم نهائي كأس العالم. ويتوقف الزمن في ذهنه للحظة تسبق اللمسة الأخيرة. سوف يتذكر الفتاة التي تركته

200 ألف من الموتى الأحياء المهزومين خرجوا من الماراكانا وهم يشعرون بأن القدر خدعهم. وأنه رفعهم إلى السماء ثم انحدر بهم تحت الأرض. خرج «أديمير مينيزيس» هداف البرازيليين من الملعب وسار بين الباكين، وشعر أنه هو من خذلهم. فهرب من ريو إلى جزيرة في المحيط لأنه لا يستطيع مواجهة هؤلاء الناس. ومن بينهم كان هناك رجل أسمر يسير مع ولد صغير وكلاهما يبكي. وتوقف الولد ذو السنوات العشرة حينها، وجذب ذراع والده، وقد لمعت في ذهنه فكرة عبقرية، فقال: «الأمر بسيط.. لا تحزن. أنا أجيد لعب الكرة، سوف أفوز لك بكأس العالم القادم». ولكن الأب الذي ابتسم كان يعلم أنه لا يمتلك المال اللازم كي يشتري كرة للصبي، وأن الصبي يعمل من أجل مساعدته في نفقات الأسرة. وفكّر في أن التركيز في لعب الكرة هو ترف لا يمتلكه فقراء مثلهم. لكنه ابتسم وأكمل مسيرة خيبة الأمل الخارجة من الماراكانا.. أمام أنظار تمثال يسوع المسيح.

المشهد الثاني.. ريو 2014

كانت الشوارع خالية تمامًا لأن البرازيل كلها قد اجتمعت في الماراكانا. وكان غابرييل الصغير يعاني من قلقه الخاص إلى جوار القلق الشعبي من غياب نيمار عن مباراة نص النهائي أمام ألمانيا. كان غابرييل يفكر في الفتاة التي تركته قبل أسابيع قليلة. ويفكر في بالميراس الذي أحرز معهم 54 في 48 مباراة. ويفكر في أنه لم يرتدِ قميص البرازيل قط.

هل يفرح أم يحزن؟ هل يفكر في نجاح البداية المذهل مع ناديه أم يفكر في كلمات الفتاة وهي تقرر تركه؟ لقد قالت الكثير من الكلمات السيئة، ولكن جملة واحدة كانت تقفز إلى ذهنه أكثر من غيرها. كان يعدها بأنه سيصبح غنيًا وناجحًا وشهيرًا، وأن كل طموحاتها سوف تتحقق. ورد هي بأن كل شاب برازيلي يظن نفسه بيليه بعد أن يحرز مجموعة أهداف. وقالت أنها لن تنتظر.

غابرييل جيسوس (رويترز)
غابرييل جيسوس (رويترز)

حاول غابرييل استعادة الفتاة كثيرًا. وكان يفشل في كل مرة. وفي أحلام يقظته فكّر في أن المسيح يبارك ريو، فقرر أن يحاول مع فتاته مرة أخرى إن ربحت البرازيل كأس العالم. قرر أن هذه هي العلامة التي سينتظرها، وأن الرب سيمنحه إياها. وفي وسط أفكاره، دق جرس هاتفه للمرة الألف في أقل من 6 دقائق. فأجاب هذه المرة، وقبل أن يدرك ما يسمعه، عرف أن ألمانيا متقدمة بخمسة أهداف. وقبل أن يفهم معنى الجملة كانت مأساة البرازيل الثانية قد وقعت بأن خسرت في الماراكانا بسباعية العار التي لا ينساها أحد إلى الآن. وعرف أنه خسر الفتاة للأبد!

المشهد الثالث.. موسكو 2018
ربما يشعر غابرييل أن صدره ينقبض بعنف ثم يستريح تمامًا. وكأن المسيح مسّ قلبه فأراحه ببركته، كما أراحت أقدامه هو قلب الأمة البرازيلية كاملة

في ملعب لوجنيكي هناك بموسكو سيتواجد رجلان أسمران، الأول فيهم عجوز يجلس بمقصورة كبار الزائرين. سوف يجلس ويتذكر مسيرة الحزن الخارجة من الماراكانا، وسوف يتذكر أبيه الفقير الباكي. وسوف يتذكر وعده الذي أوفى به. سوف يتذكر صورته التي ملأت الصحف وهو يبكي من الفرح، وهو يبكي من تذكر الحزن. سوف يتذكر أنه حصد كأس العالم 1958 هناك في السويد.. من أجل أبيه الباكي، ومن أجل الأمة البرازيلية. سوف يجلس بيليه هناك كعجوز أسمر في نهاية العمر، ويشاهد أسمر آخر شاب في ملعب المباراة.

ربما.. ربما سوف يجد غابرييل جيسوس نفسه منفردًا بمرمى خصم نهائي كأس العالم. ويتوقف الزمن في ذهنه للحظة تسبق اللمسة الأخيرة. سوف يتذكر الفتاة التي تركته. وسوف يتذكر الأقرع العبقري الذي انتظره في مطار مانشستر وقال له كل شيء عن كرة القدم. سوف يوْدِع جيسوس الكرة في الشباك ويحرز هدف الفوز للبرازيل. سوف يتوّج البرازيل -ربما- بكأس العالم. وهو يتذكر الفتاة التي تركته والأقرع الذي انتظره.

في لحظة التتويج سوف ينظر جيسوس إلى بيليه الواقف في المدرجات، وسوف ينظر إلى كأس العالم وقد أصبحت برازيلية. وسوف يتذكر تمثال المسيح هناك في ريو. وربما تأتي في خاطره مزحة طالما قالتها أمه.. يسوع (جيسوس) الأول في السماء.. ويسوع الثاني يبارك ريو في هيئة تمثال.. والثالث يلعب بالقميص 33 في مانشستر سيتي. 33.. نفس السن التي ضحى فيها المسيح بنفسه.

ربما يشعر غابرييل أن صدره ينقبض بعنف ثم يستريح تمامًا. وكأن المسيح مسّ قلبه فأراحه ببركته، كما أراحت أقدامه هو قلب الأمة البرازيلية كاملة!.. ربما!

________________________________________________________________________________________

ملحوظة: المشهد الأول من الحكاية حدث بكل تفاصيله، والمشهد الثاني لم يحدث بالتفاصيل المذكورة، والمشهد الثالث ربما يحدث وربما لا يحدث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.