إذا كان التفكير يتم بواسطة اللغة، فإن اللغة لا يُمكنها أن تكون نتيجة لتفكير. لا يُمكن أن يكون البشر قد فكَّروا لكي ينتجوا اللغة، لأن التفكير غير ممكن قبل وجود لغة يتم التفكير من خلالها، إذن اللغة ليست ناتجة عن تفكير. ولكن بما أن اللغة لم تُوجد دفعة واحدة كشيء مكتمل، وإنما تطورت عبر الزمن. فان الفكرة أعلاه يُمكن صياغتها على النحو التالي.
الكلمات الجديدة، وبالتالي المفاهيم والأفكار الجديدة، يتم انتاجها بواسطة نمط سابق من التفكير والحياة، ولكن عندما نفكِّر باستخدام الكلمات والمفاهيم الجديدة فلا يُمكننا الإشارة إلى ذلك "النمط السابق" الذي أنتج هذه الكلمات والمفاهيم. فعندما نفكِّر بواسطة لغة جديدة فنحن لا نفكَّر فيما هو سابق لهذه اللغة وإنما فيما هو لاحق لها، فاللغة الجديدة تشير إلى الأمام دائما ولا يُمكنها أن تشير إلى الوراء. معنى ذلك، أنه لا يُمكننا الوصول إلى الأفكار السابقة عندما نستخدم كلمات ومفاهيم جديدة. تماما مثلما أننا لا نستطيع أن نفكِّر فيما يُوجد في أذهان البشر قبل ظهور اللغة والكلمات، فربما ليس هُناك أذهان أصلاً حتى نفكِّر فيها.
ماذا؟ هل يعني ذلك استحالة الوصول إلى الأفكار التي وُجدت في الماضي؟ أفكار الماضي تعني لغة الماضي، وتعني – بعبارة فتجنشتاين- "صورة حياة" الماضي، فاللغة ليست شيئا مستقلاً عن نسيج الحياة في تاريخ محدد في بيئة محددة بعوامل لا حصر لها، وصورة أو نمط الحياة ليس شيئاً ثابتا، فمحددات نمط/صورة الحياة في تغيُّر دائم.
المفاهيم والأفكار التي أنتجناها لا يُمكنها أن تعبِّر عن، أو تعكس ما كان يجري في الماضي، وكل الذي يُمكنها أن تفعله هو أنها تحمل منظورنا نحن لذلك الماضي |
إن التفكير والكلام، لا يتم داخل اللغة كما لو أنها شيء منفصل قائم بذاته، وإنما يتم داخل نسيج الحياة، ولأن اللغة نفسها لا تُوجد ككيان مستقل قائم بذاته، وإنما كجزء من صورة الحياة كما يقول فتجنشتاين. وبالتالي فإن أفكار الماضي لا يُمكنها أن تعبُر إلى الحاضر إلا بقدر ما يُمكن لصورة الحياة أن تبقى ثابتة، الأمر الذي يعتمد على محددات أخرى لا حصر لها، ويستحيل أن تبقى بدون تغيير وتحول، وهذا ما يستلزم حتمية تغيُر دلالة المفاهيم والكلمات مع مرور الوقت. هذه الحتمية هي التي تجعل الوصول إلى الأفكار السابقة مستحيلاً. وما يُوجد اليوم أمامنا تحت مسمى "الأفكار القديمة" هو فقط الكلمات كعلامات لا كمعانٍ حية، فالمعنى الحي قد ذهب مع صورة الحياة التي كان هو جزءا من نسيجها.
ولكن الأمر الذي له علاقة بموضوعنا هنا هو أن المفاهيم والأفكار التي أنتجناها لا يُمكنها أن تعبِّر عن، أو تعكس ما كان يجري في الماضي، وكل الذي يُمكنها أن تفعله هو أنها تحمل منظورنا نحن لذلك الماضي في أبعاده المختلفة الفكرية وغير الفكرية. إن الأمر هُنا لا يتعلق بنزع المشروعية المعرفية عن الأفكار التي تشكِّل منظورنا للماضي، ففي النهاية هو منظور، والمنظور ليس هو الحقيقة، وهو يخصنا ويعبّر عنّا بأكثر ما يعبّر عن الموضوع الذي ننظر له، ولكن الأمر يتعلق بالوعي بهذا المنظور.
يُمكن تطبيق هذه النظرة على أفكار ومواضيع مختلفة، من ضمنها الموضوع الأهم في ساحتنا، الدين. بالنسبة لكل الأطراف ولمختلف المواقف من الدين. بالنسبة لأولئك الذين يفتقرون إلى الحس التاريخي والى الحس الواقعي، وإلى حس الوعي بالفكر وباللغة وبالذات أيضاً، يجب أن يعرفوا بأن هُناك حتمية، هي حتمية حركة الحياة تعمل على إعادة تشكيل صورة الحياة بما يجعل من المستحيل المحافظة إلى دلالة الكلمات والأفكار والمفاهيم كما هي مهما كُنا سلفيين في التفكير، مهما استخدمنا نفس المفاهيم والأدوات القديمة لن نحصل على نفس المعنى القديم، وهذا معنى من معاني استحالة اعادة التاريخ إلى الوراء. وبالنسبة لخصوم الدين، من الضروري أيضا الانتباه إلى أن الأدوات والمفاهيم الجديدة لا يُمنها أن تعبِّر عن حقيقة ما كان يُوجد في الماضي، كما لا يُمكنها أن تحكم على الماضي، إلا كتعبير عن منظور راهن، من ضمن منظورات مختلفة ممكنة.
إن القطيعة المعرفية مع الماضي إذا كانت تعني الاستقلال الفكري والتحرر من سطوة التاريخ، فهي تعني أيضا استحالة الوصول إلى معرفة موضوعية للماضي، وكذلك استحالة إقامة نقد ومحاكمة موضوعية للماضي. إن القطيعة المعرفية تعني فقط منظور جديد مختلف، والنظر إلى الماضي ليس بعين الحقيقة، وإنما بمنظور مغاير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.