شعار قسم مدونات

قتلوا أخي قبل خمس سِنين والآن نقيم العزاء!

blogs - 127-1-main

كانوا قد اعتقلوه في الشهر الرابع من عام 2012 واقتادوه إلى جهة ما -لا أحد يجرؤ أن يسأل عنها- تاركا خلفه زوجة وطفلا رضيعا وابنتين صغيرتين لا تعرفان بعد معنى أن يكون أبوهما معتقلا لدى أفرع نظام الأسد الأمنية، هناك حيث "الداخل مفقود والخارج مولود"، تاركا خلفه أمه التي ما انفكت تذرف الدموع وأباه الذي رغم كل محاولاته لإظهار الجلد والصبر إلا أن في عينيه انكسار فقدان ابنه، ذلك ورغم اعتياده -وهو الأب لعشرة أبناء- على غياب بعضهم إما للسفر أو للخدمة الإلزامية لكنه يعي تماما بمعاصرته لبطش الأفرع الأمنية في عهد الأسد الأب قبل الابن أن هذه المرة مختلفة تماما فهي لا تندرج تحت مسمى الغياب بقدر ما تندرج تحت مسمى الفقدان.
  

في سوريا هنالك ما يخيف أكثر من الموت وهو الوقوع تحت رحمة هؤلاء الوحوش

أخي عماد الذي وجد نفسه -حاله كحال الكثيرين من شباب سوريا- مضطرا لحمل السلاح في وجه آلة القمع الأسدية التي ما برحت تطحن عظام البسطاء والمظلومين من السوريين المطالبين بحقوقهم، وجد نفسه مضطرا لحمل السلاح كي ينام أطفاله في البيت دون أن يدخل عليهم وحوش الأرض ويذبحونهم بالسكاكين كما حصل مع أطفال البيضا والحولة وغيرها من المدن السورية، وكيف يرضى الظلم على نفسه وأهله وهو الذي مضى ذات يوم إلى العراق -في الثانية والعشرين من عمره حينها- وحمل السلاح للدفاع عن المظلومين والأبرياء حين رأى أشلاءهم في الشوارع والبيوت وقد مزقتهم طائرات التحالف الأمريكي البريطاني حاملة شعار الديمقراطية، وحين عاد إلى سوريا وجد نفسه مطلوبا في كل أسبوع للتحقيق أمام الأفرع الأمنية التي تريد أن تعرف تحركاته أولا بأول وماذا يأكل ويشرب وكم مرة يستيقظ في الليل.
  
مضت الأيام والشهور ونحن لا نعرف عنه أي شيء وكل محاولاتنا في معرفة مصيره كانت تصطدم عند صاحب أول رتبة عسكرية يقابلنا مهددا كل من يسأل عنه أن يزج به في السجن أيضا، هل هذا ما يسمى اعتقال؟ أوليس المعتقل بأي جرم يكون لديه كامل الحقوق في طمأنة ذويه والسماح لهم بزيارته عدا ذلك فإنه "إخفاء قسري" لذا لطالما رفضت تسمية من تقوم الأفرع الأمنية باختطافهم "بالمعتقلين" إنما هم مختفون قسريا مغيبون عن الحياة لا إلى الموت وإنما لمكان ثالث لا ينالون فيه أمل الحياة ولا راحة الموت.
   
لا أخفيكم أننا أحيانا -حالنا كحال معظم أهالي المعتقلين- كنا نفضل أن يكون قد استراح من عذاباته حتى لو كان بالموت ، ففي سوريا هنالك ما يخيف أكثر من الموت وهو الوقوع تحت رحمة هؤلاء الوحوش، وحين رأيت صور المتهمين بمحاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا ومنهم محاولة اغتيال الرئيس وكيف يتم اصطحابهم إلى المحاكمة وهم يرتدون البدلات الرسمية و أجسادهم ووجوههم تبدو بصحة جيدة ما يعني أنهم يحصلون على كافة حقوقهم تيقنت تماما أنه ذلك الذي يغيب الآلاف من أبناء وبنات بلدي ليس اعتقالا أبدا.
   

والآن نقيم العزاء ليس لموته فحسب بل نقيم عزاء الأمل بعودته والذي ما فارقنا ست سنين

ستة أعوام مضت ولا نعلم عنه أي شيء سوى بعض الأخبار غير المؤكدة والتي تقول أنه في السجن الفلاني أو أنه قد تم إعدامه، ما نحن متأكدون منه فقط أن ذلك الطفل الرضيع الذي تركه خلفه قد بدأ بالذهاب إلى المدرسة في بلاد اللجوء وابنتيه قد غدتا أكثر استيعابا لما جرى وتحاولان تارة مشاطرة أمهما حسرتها وآلامها وهي تنتظر -دون بارقة أمل- عودة زوجها وتارة أخرى تخفيف شعور اليتم على أخيهما الصغير.

  
وأخيرا قبل أيام يأتينا خبر عنه مفاده:
الاسم: عماد أبو عائشة 
تاريخ الوفاة: 18/11/2013 
مكان الوفاة: محكمة الميدان العسكرية في دمشق.

  
لم يصدمنا خبر الوفاة -لأننا كنا نتوقعه- بقدر ما صدمنا التاريخ وكمية الكذب والتزوير في صياغة هذا الخبر، وفاة!؟ ليس وفاة وإنما "قتل"، محكمة!؟ وأي محكمة تنفذ حكم الإعدام فيها دون الاستماع لأقوال الضحية دمشق!؟ لم تعد دمشق في عهد الأسد بل هي الهلاك، والآن نقيم العزاء ليس لموته فحسب بل نقيم عزاء الأمل بعودته والذي ما فارقنا ست سنين، ولا نشيع جسده -الذي لا نعلم أين هو- بل نشيع أحلام زوجته وأطفاله التي بنوها لما بعد عودته. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.