شعار قسم مدونات

بيني وبين غزة بضع حصار وكثير من الشوق

blogs -117-6-main

كنتُ صغيرة إلى الحد الذي لا يجعلُني أذكر الوقت الذي ارتبط اسمها بقلبي، بقعة تبعد عن مدينتي كيلومترات متعددة، تشبث قلبي بها من ذاك الوقت إلى الحد الذي جعل دمعي يسقط كلما ذكر اسم غزة، هناك حيث الحصار الخانق والفقر المدقع، والركام المنهال على رؤوس الأطفال والنساء، هناك حيث توأد الأحلام وتُقتل قبل انبعاثها من قلوبِ شبابها، في غزة حيث العزة والكرامة الممزوجة بتقاوي كل العالم عليها، هناك سُلِب قلبي، أصبحتْ الروحُ تتنفس باسمها، والقلبُ ينبِضُ ويقبض بسماعِ أخبارها، تنهالُ الأسئلة علي يوميا أنْ ما هو السر وراء كُل هذا الحب! ما أن أستمع إلى ذاك السؤال حتى تطاردني آلاف الصور والذكريات مصحوبة بدمع الشوق الحارق، هذا السؤال الذي لا أزال أعجزُ عن إيجادِ الإجابة له.
    

كبرت وكبر معي حصارها، ازداد شوقي إليها بازدياد بُعدِي عنها، كنتُ في كُل مرةٍ أتألمُ تألم الفقيدِ التائهِ ومع كُل تيهٍ لا أجِدُ إلا الدعاء

نُحِب البلاد ليس لسحرِ جمالها، أو لطيبِ العيشِ فيها، نحبها لأنها تسكنُ فينا قبل أنْ نسكنها، نحب العزة التي تُسطر على جبينِ كُل فردٍ فيها، نُحِب الصبر الذي يوصِلُهم حتما وبإذن الله إلى الجنة، نُحِب أننا نشتاقُ المنعة التي تحتويها، ثُم إذا ما اقتربنا منها ولو بمحادثةِ صديقٍ منها، شعرنا بأن الروح طارت وحلقت هناك وتركتنا نترنحُ في مكاننا نُقاسي ألم البعدِ عنها ومن ثم الحياة بلا روح.

   
لو اقتربنا من غزة قليلا سنجِدُ هناك الدمع يُسيطرُ على كُل بُقعةٍ، هناك لكُل حجرٍ حكاية، ولِكُل زاويةٍ رواية، يُمكِنُ للكاتب أنْ يكتب عشراتِ المؤلفات فيها، لو حاولت أنْ تلمس رأس طفلٍ صغيرٍ هناك؛ ستجِدُهُ يُعلمُك دروسا تحتاجُ لعشراتِ السنواتِ أن تتعلمها، هُناك ستجِدُ طفلة صغيرة تنسِجُ من الحُب تاجا للفرحِ رغم الأسى، وأُما تُقبلُ صورة ابنِها الشهيدِ راضية مُحتسبة شاكرة الله على ابتلائِها، ستجِدُ أطرافا بُتِرت تروي حكاية شموخِ هذه المدينة، لِكُل شيءٍ طعمٌ آخرُ حتى الفقد في ظل ما يعانونه، إنه طعم العنفوان الذي يجعلُ تلك المدينة تُحلقُ في سماءِ الوطنِ رافعة رأسها مُستبشِرة مفتخرة بدماءِ روتها؛ فرفعتها.
   
يقول الكاتب إبراهيم نصر الله "كُثْر الأحزان يا عمي خلتنا مفاجيع أفراح"، ترى ذلك جلِيا في مدينةٍ تصنعُ من الموتِ حياة، ومن الدمعِ بسمة لأجلِ أنْ تقوى على تلك الحياة، اشتياقي لغزة أو لنقل اشتياقنا فأنا على يقينٍ أن هناك العشرات من القُراء سيشعُرُون بما أشعر، أو لرُبما ستدمعُ عيونُهم شوقا إلى هناك، اشتياقنا ما هو إلا اشتياق لحياة حلِمنا بها طويلا منذُ زمنِ الخلفاءِ الراشدين والفتوحات الاسلامية، اشتياقنا لها هو اشتياق لطعم الكرامة المغموس بالدم.

   
كبرت وكبر معي حصارها، ازداد شوقي إليها بازدياد بُعدِي عنها، كنتُ في كُل مرةٍ أتألمُ تألم الفقيدِ التائهِ ومع كُل تيهٍ لي أجِدُ الدعاء لما معين لي في رحلةِ الحُب هذه، كبُرت بحجمِ حروبِها التي خاضتها وحدها، بحجم صرخاتِ الثكالى هناك حيثُ الصراعِ الأبدي بين وحشيةِ عالمٍ بأجمعِهِ عليها وبين إنسانيتِها المسلوبةِ بين أصواتِ القصفِ والصواريخ، ولا زالت ترسمُ لنا طريق النصرِ مُخضبا بدماءِ شبابِها، وبضع دعواتٍ يقتاتُ ضميرنا النائمِ عليها ليبقى في سُباتِهِ يُصارِعُ الذل، وتبقى هي تُسابِقُ المجد حاملة بين يديها أجمل وأصدق صُنعٍ في تاريخِ الأمة أجمع.
    
أو لنقل أنها تصنعُ التاريخ وحدها، ومع كُل صُنعٍ أراها تسدُلُ بحُبها العظيمِ على قلوبِنا، لتُخبِرنا أنْ لا نحزن على كُل هذا العجز، تُحِبنا رغم كُل ما يحدث، فما جزاءُ الحُب إلا الحُب، ولا جزاءُ الشوق إلا ابتهالاتٍ عظيمة، أن يجمع الله بين قلبي ومحبوبتِه وأن يكون الوصلُ ذات يومٍ قريبا جدا، قُرب تلك المدينة من قلبي المنهك شوقا لها. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.