شعار قسم مدونات

أن تبلغ ثلاثین سنة!

مدونات - رجل

رأیت النور بالعاصمة الرباط رباط الفتح في الثمانینیات من القرن الماضي… منذ ثلاثین سنة. عشت طفولتي في التسعینیات ولم یكن ثم إجمالا أمر استثنائي یستحق الذكر. عشت طفولة عادیة أكثر ما أذكر منها أن الوقت كان یمر علي ببطء شدید، أذكر أن ساعتین أو ثلاث من حصص اللغة العربیة أو الفرنسیة بالتعلیم الإبتدائي كانت تمر علینا كدهر (للإرهاب الذي كان یمارسه علینا بعض المعلمین في ذاك الزمان ید في ذلك سامحهم االله). أذكر كیف كنا نغادر أبواب المدرسة راكضین كمن یغادر السجن للتو لنلحق حلقة من رسومنا المتحركة المفضلة. للسخریة لعلي تعلمت وأتقنت العربیة الفصیحة من شفاه أبطال رسوم الكرتون أكثر مما تعلمتها من كراریس الدراسة، جریمة بالمناسبة أن تدبلج رسوم الكرتون الیوم إلى اللهجات العامیة، لكن هذا لیس موضوعنا الآن.

كانت أیام الشباب تتراءى بعیدة لناظري. كنت أحلم بیوم أصیر ذا عمل وسیارة ودخل، بیوم أصیر إنسانا حرا ممتلكا لزمام أمري. لم أعش طفولة بئیسة بل على العكس فیما أستحضر، لكني كنت أرى الأطفال كائنات مسلوبة الإرادة مقهورة بسلطة الكبار، كنت أتشوف أن أصیر أنا أیضا لاعبا في نادي الكبار. لقد جرى الزمن علي في غفلة مني وأنا الیوم ابن ثلاثین سنة، لا أدري كیف انفرط عقد الزمن بهذه السرعة، مرت علي أحداث شخصیة فاصلة وعاینت أحداثا دولیة عظیمة، لقد عشت صدقا الكثیر لكني عشته بسرعة، لم یكن ثم متسع لتقلیب وإمعان النظر!

ثلاثون سنة علامة ممیزة على خارطة طریق أي إنسان، إن أحدا لا یملك أن یتجاهل هذا السن رجلا كان أو امرأة. هي فرصة لإعادة ترتیب الأوراق وتجدید العهود، فرصة للنظر في ما أنجز وما ینتظر.

طفولتي والتسعینیات تبدو للمفارقة الآن حقبة بعیدة وسحیقة، كم وددت أن أعود إلى هناك اللحظة یا ولدي وأحكي لك الكثیر. اعلم یا بني أن زهرة الدنیا لیست كما یخیل الیك، تتشوف نفسك لأمور فتصیبها ویصیر الأمر عادیا… تمتلك سیارة، تكتري منزلا، تتزوج، تنجب، تسافر إلى أكثر البقع إثارة وتشویقا… لا شيء هنالك یا صدیقي… إنه السراب، أفیون نغذي به أجسادنا لنؤدي مهمة اسمها الحیاة وإن ما انتبهت ستظل تدمن الأفیون حتى الموت دون أن تفكر یوما فیما تصنع وعلى ما تقاتل. إعلم یا بني أن كثیرا مما أبكاك لیس یستحق العناء وأعلم أن الحریة بحق أصعب بكثیر مما تتصور، قد تستبدل في النهایة فقط الأغلال. 

ثلاثون سنة علامة ممیزة على خارطة طریق أي إنسان، إن أحدا لا یملك أن یتجاهل هذا السن رجلا كان أو امرأة. هي فرصة لإعادة ترتیب الأوراق وتجدید العهود، فرصة للنظر في ما أنجز وما ینتظر. كنت محتاجا أن أوقف عداد الزمن في مخیلتي وأتأمل بعیدا عن الضوضاء. أیاما قبل أن أكمل ثلاثین سنة حزمت حقیبتي وتوجهت نحو كوالالمبور. لا أعرف الكثیر الكثیر عن مالیزیا، أعرف دماثة أخلاق وحسن أدب من التقیت من المالیزیین في الماضي، أعرف أنها دولة بها مظاهر حضارة ونظام وتقدم وأنها لا تعاني الیوم نفس أزمات العالم العربي. أحمل في الحقیقة مشاعر طیبة تجاه البلد وأهله.

هذه البلاد دخلها الإسلام بلا سیف ولا رمح بل بما لمسوا من حسن أخلاق التجار المسلمین. هذا هو الإشعاع المفقود بحق! كم یسلم الیوم عبر الاحتكاك بالمسلمین ومعاینة أخلاقهم؟ أفضل ألا أفكر في الإجابة، الأمر لیس شدید الأهمیة الیوم، أرید أن أبتعد وأفكر فقط. هذا الفندق مليء بالسیاح الشقر الغربیین، هذا الشرق وهذا الغرب، الندان المتنافسان منذ الزمن البعید..ما الذي حدث في خمسمائة عام ولماذا ضللنا الطریق؟ قد تكون كفرد أعلى شأنا منهم أجمعین لكن فیهم عزة بحكم بلدانهم وانتمائهم لا تملكها أنت ولا یصدح بها جواز سفرك. إنك مهما علا قدرك تبقى رهنا بما تنتمي إلیه وما تمثله، یجب أن ترتقیا سویا.

ألسنا الجیل الذي یجب یحرك عجلة التغییر؟ ألیس للشرق أن یفخر بأبنائه بعد؟ أین الخلل؟ إنه قبل كل شيء في الأفراد، في وفیك، في القیم والمعاني التي نحن الیوم أقل من أن نحملها بحق. یا رجال ولا رجال، تؤلم لكنها الحقیقة. دعك منهم الان ها قد انتصف اللیل وها أنت تطرق على استحیاء أبواب عقد جدید وهاهي صفحات اخر من كتاب عمرك ستفتح كي تكتب بعد قلیل، فبأي كلمات وبأي مداد؟ ربما لو استقبلت من أمري ما استدبرت أكنت أبني حیاة أفضل من التي عشتها؟ سؤال صعب، یخیل إلي أن الإنسان یفعل في كل لحظة أقصى ما یستطیع فعله بشكل أو بآخر، لكني وسط موجات الإلحاد التي تعصف بالشباب العربي المثقف، وسط أخبار البؤس التي تشوه صورة الإسلام یوما بعد یوم، أشعر بالسكینة أن إیماني باالله في حقیقته لم یتكدر، أني أرى شدة النور وسط كل هذا الظلام، أن العلوم والمعرفة والمحنة قربتني إلیه ولم تصرفني عنه، یشعرني هذا صدقا بالإصطفاء.

إن في النفس شیئا یأبى أن یعیش حیاة تافهة، إن في النفس شیئا یأبى أن یغادر قبل أن یقدم شیئا، قبل أن یقدم الكثیر.

أملك حلمین أو ثلاث على الأكثر في هذه الحیاة، رأسها أن أكون إنسانا أفضل، أن ألقى االله بأفضل نسخة ممكنة مني. ثم إني جزء من هذه الأمة العظیمة. الأمة التي لا یلیق بها إلا المجد، المجد التي هي الیوم عنه أبعد ما تكون. مللت هاته الهزائم والإنكسارات، أحب أن أشاهدها تنفض جناحیها من جدید، أحب أن أرى وجهها المنیر الذي في مخیلتي. لا یهم أن أرى ذلك في حیاتي لأن حیاتي لیست مهمة أرید فقط أن أرى شعاع النور یخترق حلكة الظلام، أن أعرف أن أحفادي قطعا سیرون شمسها تشرق من جدید.

أما آن للسفینة المبحرة منذ الزمن البعید أن تعثر على میناء سلام؟ أما آن للراكب أن یستریح؟ أما آن أن تفتح أبواب السماء للصوت الجریح؟ أما آن لشعاع النور أن یهزم جیوش الظلام؟ الحیاة لیست دالة خطیة، تقدمك وما تنجزه لیس منتظما بالوقت، قد تحوم في دائرة مفرغة عشر سنین وقد ینفجر عطائك في سنة واحدة. الأفراد والأمم تجري علیهم نفس القوانین، ما یجعلك إنسانا أفضل یجعل أمتك أیضا أفضل، إنكما واحد وقبل أن تحقق حلما یجب أن تبني أولا انسانا أهلا للقیام به، قد یستنفذ هذا الكثیر. وهل أصعب من أن تبني إنسانا؟

الوقت یمر بسرعة، وأنت تعلم أن ثلاثین عاما قادمة من عمرك (إن كانت مقدرة لك) ستمر أسرع بكثیر من هاته التي قد مرت، أنت تعلم أنك قد تقف یومها على حافة العمر خاوي الیدین تطرح نفس الأسئلة دون جواب. إن في النفس شیئا یأبى أن یعیش حیاة تافهة، إن في النفس شیئا یأبى أن یغادر قبل أن یقدم شیئا، قبل أن یقدم الكثیر. واصل یا ولدي، آمن بالغد الأفضل، عسى أن تكون قادرا في آخر عمرك أن تكتب رسالة للرجل الذي حقق كل أحلامه…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.