قد يتوهم البعض أن جل ما يحتاجه الفلسطينيون هو المصالحة بين السياسيين المتخاصمين، فلقاء يجمع الفرقاء السياسيين قد يشكل بارقة أمل لكثير من الفلسطينيين ممن أعياهم الانقسام الفلسطيني وآثاره، بيد أن المتأمل لواقع الحال في فلسطين يجد أن آخر ما يمكن أن يشكل حلا للمعضلة الفلسطينية هو المصالحة على مستوى السياسيين، تلك المصالحة التي كتبت عشرات المرات وباءت بالفشل دون أن نسأل أنفسنا ما السبب؟ فبغض النظر عن بنود المصالحة التي تكتب كل مرة بأشكال جديدة، نجد أنه بات من الصعب تحقيق تقدم في هذا المجال فما هي الأسباب؟
من تربى على انكار هذا المبدأ للاحتكام أمام الخصم، لن يستطيع أن يقبل به كوسيلة للاحتكام في الخلافات أو الترتيبات الداخلية |
لعل المتأمل في أحداث البلطجة التي تحدث بين الحين والآخر في فلسطين يدرك أن احدى أكبر المشاكل التي تعاني منها الفصائل الفلسطينية هي عدم قدرتها على تربية أبنائها على مبادئ راقية في التنافس السياسي وأولاها مبدأ الاحتكام لصندوق الاقتراع ومبدأ التداول السلمي للسلطة، بعد سنوات طويلة من الانقسام الفلسطيني، باتت سياسة الأمر الواقع تفرض نفسها على طريقة تفكير أبناء الفصائل الفلسطينية، فمن ذاق حلاوة الوصول الى موقع نقابي أو سياسي؛ دون أن يكلف نفسه عناء خوض غمار انتخابات نزيهة لنيل ذلك المنصب، أصبح من الصعب عليه أن يعيد صياغة طريقة تفكيره وأن يقبل بأن يعرض موقعه للخسارة مقابل مبادئ الحرية والنزاهة والديمقراطية.
هذا الأسلوب في ادارة مؤسسات دولة فلسطين كان في البداية صعبا على بعض النخب السياسية، لكنه بعد حين بات مقبولا على شرائح واسعة من أبناء فلسطين، فمن يعرض عليه أن يصبح عضوا في بلدية أو نقابة أو مجلس طلابي؛ وهو يعلم أن الانتخابات تجري تحت السياط، وافق وذاق حلاوة المنصب ونسي أو تناسى كل الكلام الفارغ الذي يقال عن مبادئ الحرية والنزاهة والديمقراطية، ومن ثم أصبح من الصعب عليه أيضا أن يفكر بمبدأ التداول السلمي للسلطة وهو يعلم أن العودة للمبادئ وصندوق الاقتراع ستأتي بمن هو أفضل منه.
هذه المعضلة لم يسلم منها أحد من الفصائل المتناحرة في فلسطين، ففي الضفة أصبح معروفا الطريق الى الوصول الى أحد مقاعد النقابات أو الأقاليم أو المواقع المتقدمة في مؤسسات حكم الدولة، وباتت حتى سياسة التعيين تستخدم كحل داخلي لكثير من الإشكاليات وليس فقط كسياسة أمام الخصم، وبات من الصعب الاحتكام بشكل نزيه لصندوق الانتخاب، فمن تربى على انكار هذا المبدأ للاحتكام أمام الخصم، لن يستطيع أن يقبل به كوسيلة للاحتكام في الخلافات أو الترتيبات الداخلية.
وفي غزة لا نستطيع أن نقول أن سياسة الأمر الواقع وعشر سنوات من الحكم بعيدا عن صندوق الانتخاب ومبدأ التداول السلمي للسلطة، لن تأثر على طريقة تفكير من يحكمون هناك، فقد بات من الصعب على من يشغل موقعا متقدما؛ يعتقد أنه يحمي من خلاله عرين المقاومة، أن يخلي موقعه لمن يعتقد أنه قد يضر بالمقاومة، هذا الأسلوب الذي تتبعه الفصائل الفلسطينية في ادارتها للحكم في فلسطين، من تعويد أبنائها سياسة تغييب الصندوق الانتخابي، والالتجاء الى البلطجة بدل الاحتكام للحوار، وسياسة التعيين واقصاء الآخر، سيكون له آثار مدمرة على النظام السياسي في فلسطين، وسيعاني النظام السياسي في فلسطين لسنوات طويلة نتيجة هذه المعضلة.
اليوم بات لدى كل طرف ما يبرر به؛ في خطابه الداخلي أمام أبنائه، سياسة اقصاء الآخر وعدم الاحتكام للصندوق الانتخابي، ومن ثم انتقلت هذه السياسة من أسلوب تدير به الفصائل الفلسطينية صراعها مع بعضها البعض، الى نهج فكري وسلوك يتبعه أبناء تلك الفصائل في ادارتهم لصراعاتهم المختلفة خلال حياتهم العملية والسياسية، وباتت نتائج اعادة برمجة أبناء الفصائل الفلسطينية تظهر على شكل عنف واستخدام لوسائل غير شرعية للوصول الى الأهداف.
الاحتكام للصندوق الانتخابي في فلسطين قد يخرج المتخاصمين خارج اللعبة، ويأتي بفئة شابة طموحة لديها من الإمكانيات ما تسهم من خلاله في تقدم ورفعة فلسطين، ولكن السؤال المطروح: من يقبل بنتائج الانتخابات اليوم؟ وإذا قبل هل يستطيع أن يخلي موقعه ويطبق مبدأ التداول السلمي للسلطة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.