شعار قسم مدونات

مجتمعات اليوم.. هل هي مجتمعات جاهلية؟!

blogs المجتمع

تحدثنا في المدونة السابقة عن مفهوم الحاكميّة عند السيّد المجاهد المودودي رحمه الله، والتي تأثر بها ونقلها عنه الشهيد سيّد قطب، وبيّنا أنّ مفهوم الحاكميّة عند السيّد المودودي – وكذلك قطب – قد تم استغلاله واختزاله من قبل تيّارات الغلوّ من غير دقّة موضوعية أو علميّة.. وإذا كانت نصوص الحاكميّة عند المودودي وقطب قد فُهمت بشكلٍ ملتبس وموهوم من قبل بعض التيّارات، فإنّ مفهوم الجاهليّة عندهم، قد تمّ نقده وتصويبه بأقلام وألسنة الوسطية الإسلاميّة الجامعة.

انطلق السيّد المودودي من دعوى غيبة الحاكميّة الإلهيّة عن المجتمعات العربيّة والإسلاميّة إلى الحكم عليها بالجاهليّة، وذلك دون أن يحكم على الأمّة نفسها بالجاهلية أو الكفر، وقد وصلت به (المجازفة الفكريّة) -بتعبير د. محمد عمارة- إلى الحكم بسيادة الجاهليّة في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلاميّة منذ السنوات الأخيرة لخلافة عثمان بن عفّان رضي الله عنه إذّ يقول: "ولكن الخليفة الثالث كان لا يتصف بتلك الخصائص التي أوتيها العظيمان اللذان سبقاه، فلقد كان ينقصه بعض الصفات اللازمة للحكم والأمر، التي كانت على أتمّها في أبي بكر وعمر.. فوجدت الجاهليّة سبيلها إلى النظام الاجتماعي الإسلامي"، ثمّ يمضي المودودي ويحكم بأنّ الجاهليّة استشرت من بعد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى الأبد: "لقد انتقلت أزمة السياسة والحكومة، بعد عمر بن عبد العزيز إلى أيدي الجاهليّة إلى الأبد".

الشهيد سيّد قطب يعتبر إسلام المجتمعات عبارة عن زعم إذ يقول: "إنّه يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنّها مسلمة

أمّا الشهيد سيّد قطب -والذي انطلق من نفس منطلق السيّد المودودي في الحكم على المجتمعات بالجاهليّة- فإنّه قد تجاوز ذلك الحدّ وأعلن عن انقطاع الأمّة الإسلاميّة عن الوجود منذ قرون إذّ يقول: "إنّ وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة.. فالأمة المسلمة ليست (أرضًا) كـان يعـيش فيها الإسـلام. وليست (قومًا) كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي.. إنما (الأمة المسلمة) جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي.. وهذه الأمة – بهذه المواصفات- قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا ".

وكذلك فإنّ الشهيد سيّد قطب يعتبر إسلام المجتمعات عبارة عن زعم إذ يقول: "إنّه يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنّها مسلمة" لأنّها كما يقول رحمه الله: "تعطي أخصّ خصائص الألوهيّة لغير الله، فتدين بحاكميّة غير الله"، ويعتبر -رحمه الله- أنّ النّاس ليسوا مسلمين حيث يقول: " إنّ النّاس ليسوا مسلمين -كما يدّعون- هم يحيون حياة الجاهليّة.. ليس هذا إسلامًا، وليس هؤلاء مسلمين، والدعوة اليوم إنّما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام".

إنّ الشهيد سيّد قطب، كتب هذا الكلام وحكم على المجتمعات بالجاهليّة في لحظات المحنة والتوتر، ولا يمكننا أنّ نُغفل البعد السيكولوجي عند الشهيد والذي أدّى إلى إفراز هذا الكلام، فالشهيد وإخوانه قد قاسوا وكابدوا شتّى أصناف العذاب والنكال في المعتقلات، ويكفينا الاطلاع على كتاب (أيام من حياتي) للسيدة زينب الغزالي، وكذلك كتاب (البوابة السوداء) للأستاذ أحمد رائف، لنتعرّف على الأساليب الوحشيّة والبربريّة التي تعرّض لها الإخوان في سجون عبد الناصر.

ويحكي لنا العلّامة القرضاوي، عن بعض الأسباب التي تضافرت لايجاد هذه الثمرة المرّة في واقعنا الإسلامي فيقول: " أجل، راجت فكرة التفسيق والتبديع، بل التكفير.. وساعد على ذلك الجوّ الخانق الذي كانت تعيشه الحركة الإسلاميّة ورجالها ودعاتها، الذين نصبت لهم المشانق، أو قُتلوا بأدوات التعذيب خفية، أوّ صبّت عليهم ألوان التنكيل والتشريد من كلّ جهة، في حين فُتحت الأبواب أمام العلمانيين وكلّ خصوم الإسلام". 

كتابات الشهيد سيّد قطب لها فضلها وتأثيرها الإيجابيّ، فعلاوة على أنّها تفجّر بالنفس معانيَ إيمانيّة عظيمة، فإنّها لا تزال منهجًا متكاملًا في صياغة نموذج المسلم الحرّ المقاوم
كتابات الشهيد سيّد قطب لها فضلها وتأثيرها الإيجابيّ، فعلاوة على أنّها تفجّر بالنفس معانيَ إيمانيّة عظيمة، فإنّها لا تزال منهجًا متكاملًا في صياغة نموذج المسلم الحرّ المقاوم
 
جاهلية المجتمعات في عيون الوسطيّة الإسلاميّة الجامعة

رغم حبّ العلّامة القرضاوي للشهيد سيّد قطب، إلّا أنّ حبّه للحقّ كان أكبر، فقال في جاهليّة المجتمعات بلسان الوسطيّة الإسلاميّة – والتي يُعتبر العلّامّة القرضاوي رائد مدرستها وفارس ميدانها، إذّ أنّها مثلت معيار المشروع الفكري الحاكم لاجتهادات صاحبه: "إنّ مجتمعنا المعاصر ليس جاهليًا، كالمجتمع الذي واجهه الإسلام عند ظهوره.. وإنّما هو مجتمع خليط من الإسلام والجاهليّة، فيه عناصر إسلاميّة أصيلة، وعناصر جاهليّة دخيلة.. فيه قلّة مرتدة.. وفيه منافقون، لكنّ جماهير الأمّة ملتزمة بالإسلام، والمتأثرون بالغزو الفكري جهّال لا كفّار.. ومعظمهم لم ينكر حقّ الله في أن يشرع لعباده ما يشاء ويلزمهم بما يريد، ولكنّهم يظنون أنّه منحهم حرّية الاختيار فيما يحكمون به أنفسهم في بعض شئون الحياة.. أو أنّ ما جاء به الإسلام في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي أشياء قليلة لا تبلغ أن تكون نظامًا يوجه الحياة.. وبعضهم يقول: لا يمكن تطبيقه في هذا العصر، وهذا إنّما جاء من الجهل بحقيقة دينهم وشموله، إنّ جلّ هؤلاء النّاس لا ينكرون حكم الله، لكنّهم يجهلونه". 

أمّا الدكتور محمد عمارة – والذي ينتمي لمدرسة الوسطيّة أيضًا – فيقول في جاهليّة المجتمعات: " فالجاهليّة – في المصطلح العربي والإسلامي- هي (زمن الفترة، ولا إسلام)، أي الفترة بين رسولين ورسالتين وشريعتين، عندما لا يكون هناك دين صحيح سائد، وإنمّا يكون الشرك والوثنيّة محور الاعتقاد، والذين أطلقوا وصف الجاهليّة على المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة وحضارتها ودولها وحكوماتها، انطلاقًا من أنّ الجاهليّة هي (حالة) وليست (فترة زمنيّة) – ومنهم المودودي والذين ساروا على دربه- قد جانبهم التوفيق عندما لم يميّزوا بين وجود (شوائب جاهليّة) في المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة وبين (عموم الجاهليّة) في هذه المجتمعات.. فعموم الجاهليّة يعني انعدام الإسلام، وتحوّل الشرك والوثنيّة إلى محور الاعتقاد في هذه المجتمعات".

ويقول: "إنّ مجتمع النبوّة على عهد رسول الله لم يخل من (شوائب الجاهليّة) ومع ذلك، فلا يمكن لعاقل أنّ يصفه بأنّه مجتمع جاهلي"، ثمّ يقول: "ومثل ذلك حديث أبي ذرّ الغفاري: أنّه سابَّ رجلًا، على عهد رسول الله فعيّره بأمّه، فأتى الرجل النبيّ فذكر ذلك له، فقال له النبي: إنّك امرؤ فيك جاهليّة.. فوجود شيء من الجاهليّة في الصحابي الجليل أبي ذرّ، لا يعني أنّه جاهلي بحال من الأحوال". 

في النهاية، ينبغي التنويه إلى أنّ كتابات الشهيد سيّد قطب لها فضلها وتأثيرها الإيجابيّ الكبير، فعلاوة على أنّها تفجّر في النفس معانيَ إيمانيّة عظيمة قلّما يجد القارئ مثلها عند الآخرين، فإنّها كانت ولا تزال منهجًا متكاملًا في صياغة نموذج المسلم الحرّ المقاوم الرافض للظلم والذلّ والاستبداد.. إلّا أنّه يجب الإشارة إلى مفهوم الحاكميّة والجاهلية وكذلك مفهوم الجهاد الهجومي عنده – والذي سنتعرض له في مدوّنة لاحقة إن شاء الله – لما في هذه المفاهيم من آثار سلبيّة قد ترتدّ في النفوس، أو لما فيها من التباس قد يؤدي إلى فهمها على غير المراد. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.