شعار قسم مدونات

محاصرون في العالم المفتوح!

blogs ريموت كنترول

سم صار يتفشى في أوردة عقولنا، نبيع ونشتري المبادئ وكأنها سلعة، في زمن الرويبضة، لم نعد نعرف الحقيقة، لم نعد نفرق بين الصدق والكذب الملون، اختلطت علينا التصنيفات، وكل ما في حياتنا مهجن. المذاهب مبهمة، وهناك من يحترفون دس السم بإقناع، ملايين المدخلات والمؤثرات تخترقنا رغما عنا، وكل إناء بما فيه ينضح. ضوضاء في الفكر، في المعتقد، ضوضاء حتى في الرؤى والحقائق، تلوث يشمل كل المدخلات الحسية.

هذا هو التيه الذي ارتسم على وجه حاضرنا، ذابت معالم الوقائع، وغطى الشمس خداع بصري وانهكتنا الصدمات في كل من توسمنا بهم الخير يوما. اقتحام شرس شن على عقولنا والهجمات متعددة الأشكال والألوان، وصارت حروبنا حروب الفكر وباسم الفكر تستباح الدماء. نحن محاصرون في العالم المفتوح! حتى كوانا الانحدار في السلوك، نتبع السرب أينما ذهب دون أن نعرف من قائده، ما هويته وإلى أين ذاهب، تائهون بين المد والجزر وأمواج الإعلام تسحبنا أينما أرادت، نصدقهم ونحن نعلم أكاذيبهم، وكذب الإعلام وإن صدق، وكما علب المفرقعات باتت مجتمعاتنا؛ شرارة غدر كفيلة بأن تنهيها.

نحن محاصرون في العالم المفتوح، كنا سابقا نتحرى الحذر عند الغوص في كتاب، كان يذهب للمعلومة مريدها، حتى يحصل عليها نقية ودقيقة، الأن صارت المعلومات تجتاحنا، تخترق هواتفنا وبيوتنا، وقبل كل شيء عقولنا، تجدها منمقة ومختصرة، كما الوجبات السريعة، تختصر الوقت والجهد، صممت خصيصا لأمة لا تقرأ، وما أدراك أي سموم تحتوي عليها الوجبات السريعة.

فيما يقدم لأطفالنا مصائب أشد وطئا، فلا المحتوى نقي من التشويه ولا القصة جميلة وجاذبة ولا تحتوي شيئا من عبرة ولا حتى تقدم فكرة، بل عنف مغلف بأجمل الأوراق الملونة الجاذبة

ومقاطع الفيديو باتت أشد سمية، فهي سهلة المرور للمتلقي، خفيفة للهضم السريع بل وغنية بهرمون السعادة، قص ولصق، من هنا لقطة ومن هناك مقطع، معززة بأقوال أعلام ومشاهير أو اقتباسات تم توظيفها بعناية، حتى تصبح الخلطة السحرية أكثر إقناعا وأسرع مفعولا. وفي التكرار إفادة؛ فقطرة الماء إن تكرر سقوطها تحفر الصخور، وهكذا يتم نقش الفكرة، ويتم صنع أحافير من الأكاذيب قابلة لعبور الأزمنة.

ومن خلال الزائر البيتي تتحفنا الدراما التي باتت تبخ في هوائنا قائمة جديدة محدثة من المباحات، وتصور لنا أنها واقع فرض نفسه في مجتمعاتنا، فتجد المساكنة وشرب الخمر والإدمان بأصنافه والكثير من التجاوزات المرفوضة اجتماعيا ودينيا، تُعرض لنا على أنها أمر طبيعي وحقيقة يجب تقبلها، وقد كذبوا فهذا ما يسوقون له كأمر واقع لإيقاع المزيد من صدوع التحرر المبطن بهدمنا وضياعنا. وكذبوا أيضا لأن قليلا من الأشواك لا يمكنها أن تطغى على جمال حقل من ورود، فلا يزال في أمتنا الخير ولا تزال الطهارة حاضرتنا مهما أذلنا الانحدار.

وفيما يقدم لأطفالنا مصائب أشد وطئا، فلا المحتوى نقي من التشويه ولا القصة جميلة وجاذبة ولا تحتوي شيئا من عبرة ولا حتى تقدم فكرة، بل عنف مغلف بأجمل الأوراق الملونة الجاذبة يتصدر كل المسلسلات الكرتونية التي باتت بأسلحتها وشخصياتها تملأ متاجر ألعاب الأطفال، ناهيك عن الإيحاءات المرفوضة أخلاقيا التي تنزلق أثناء تصفح الشبكة العنكبوتية -فيما يقدم للطفل منها بالتحديد-، أي جيل سينشأ في هذه الضوضاء الفكرية وأي أدوات يمكن للأهل والتربويين استخدامها لتهذيب ما يتعرض له أطفالنا من مدخلات شائكة ومسمومة وبنفس الوقت "غالبا ما تكون شائقة وجاذبة جدا".

وبما أننا في بحر من التيه غائرون، وبما أن المتلقي هو أدمغتنا، بينما المرسلون لا حصر لهم، حري بنا أن نخضع كل معلومة للفلترة واختبار مدى صحتها، وأن نتيقظ أكثر للمدخلات التي تخاطب العقل الباطن وتستهدف التأثير على اللاوعي، علينا أن ننعش قيمنا الأصيلة ونعيدها للحياة، وأن نسعى دائما لانتقاء مصادرنا بعناية. نحن كأفراد لا نملك إلا البدء بأنفسنا، فلنجعل عقولنا وبيوتنا حصنا منيعا ولنرتقي بانتقاء ما يقدم لنا ولو على مستوى الترفيه ونتنبه لما يخترق بيوتنا وأدمغة أبنائنا بمختلف أعمارهم. علينا أن نقترب منهم أكثر، أن نشاركهم ونحتويهم ونكون أهلا لثقتهم وأمنا لهم ونعيد لبيوتنا الألفة والمشاركة والرحمة ونحيي الجميل من عاداتنا ونكبح جماح التمرد الذي بات يقضي على الصالح منها. علينا أن نعلن رفضنا ونوجه سهام انتقادنا لكل محتوى فاسد مغلف بجمال جاذب ينافي قيمنا والأصيل الجميل من عاداتنا.. إلى كل من سلم ناصيته وغطى بالغربال بصيرته، أطلق لعقلك العنان، تفكَر فإن في التفكُر عبادة، تأمَل، فمن الـتأمل عرف الرحمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.