شعار قسم مدونات

لا تلوموهم إن هم اختاروا الرحيل!

blogs مطار

حب الوطن من أكثر المشاعر النبيلة تجذرا في داخل كل إنسان، بل إن كل المخلوقات تحمل في داخلها حب الانتماء إلى موطنها الأصلي، حتى إذا ما ابتعدت عنه طوعا أو قسرا شعرت بعدم الراحة لوقت طويل وبحنين مستمر. وإننا لو كنا نجهل أن الإنسان يأتي لهذه الدنيا كصفحة بيضاء، لكنا قلنا جازمين أنه شعور يولد مع الإنسان، بل لكنا رفعناه إلى مصاف الغرائز الأساسية.

هو الوطن إذا الذي كبرنا ونحن نسمع عن بطولات وانتصارات أبناءه وتضحيانهم منذ العصور الغابرة، وعن معاركه المجيدة، وعن رجالاته وشخصياته الفذة وما جلبوه للوطن من مفاخر، وهو الوطن الذي حفظنا تاريخه الذي درسناه منذ نعومة أظافرنا عن ظهر قلب، فصار شيئا مقدسا لا يرقى إليه شك ولا تخدشه شبهة. الوطن الذي خفقت قلوبنا بحرارة فرحا أو حزنا لأصغر وأبسط الأشياء فيه، كمباراة كرة قدم أو مشاركة إحدى مواهبه في مسابقة فنية ما، هو الوطن نفسه الذي تجند الجميع فيه للدفاع عن قضاياه الأكثر أهمية. فبذلوا كل ما استطاعوا وأكثر من أجل ذلك رغم كل الصعوبات والمحن، فجيشوا وتجيشوا.

ولعلنا لا نبالغ إن قلنا أن الشباب هم أكثر فئات المجتمع تعلقا بالوطن وحبا له، وهم كذلك أكثر الفئات التي تحمل أملا كبيرا في وطن آمن مستقر، وطن يحقق لهم أحلامهم في العيش الكريم والخدمات الأساسية والتمتع بحرياتهم كاملة بعيدا عن أي تضييق أو رقابة، وطن مماثل لما اعتادوا السماع عنه ومشاهدته في المجتمعات الغربية.

ومن الشاب من يفضل الرحيل مهاجرا وطنه ومفارقا أهله وأحبابه بسبب عدم تناسب مقدراته العلمية والفكرية والثقافية مع ما يوفره الوطن من مناصب خلق وإبداع، وذلك بعد سنوات طويلة من التحصيل العلمي صرفت فيها الدولة أموالا معتبرة لتكوين أبنائها، لتستفيد منهم بعد ذلك وعلى طابق من ذهب أوطان أخرى توفر لهم كل ما يحتاجونه للاستمرار في مسيرتهم البحثية والعلمية، وليتواصل نزيف العقول والأدمغة من دون أن يستفيد منها وطنها.

الشباب لديهم حجة قوية للرحيل، ليبحثوا لهم عن أفاق جديدة يحققون فيها ما لم تسمح لهم الظروف في وطنهم الأم بتحقيقها

أما غالبية الشباب فتختار الهجرة في كثير من الأحيان بسبب عدم توفر أبسط ما يمكن أن يوفره الوطن لأبناء من الضروريات في غيره من أوطان الغرب مثلا، والتي ينظر إليها هنا على أنها من الكماليات التي لا يلج إليها المواطن -إن ولج أصلا- إلا بعد جهد جهيد، كالخدمات الصحية والسكن اللائق والتعليم المنتج بالإضافة إلى احترام الحريات وغيرها من الحقوق المنصوص عليها في جميع دساتير ومواثيق العالم. وإن كانت باقي الفئات خصوصا من الأجيال السابقة قد عايشت نسبيا الوضع وتعايشت معه ولم يعد حلم الهجرة يغريها في شيء، فإن الشباب يرون في أنفسهم القدرة على ذلك.

ومما يزيد من إصرار الشباب على الرحيل بعد انغلاق جميع الأبواب في وجوههم هو فشل المشاريع التنموية في أوطانهم، تلك المشاريع التي لطالما تجند الإعلام الرسمي لتلميعها على مدار سنوات، ليتضح في النهاية فشلها الذريع وعدم مناسبتها للوضع العام، أو في أحسن الأحوال حاجتها لإعادة التأطير لكي تصير ملائمة لطموح الشباب خاصة وباقي أفراد الشعب عامة. كما أن تردي أوضاع السياسة والسياسيين هي من الأسباب التي تجعل الشباب يفقدون الأمل في أي تغيير، حيث يتضح أن فئة واسعة منهم انتهازييون لا يدافعون إلا عن مصالحهم الشخصية ومصالح أقربائهم، ولا تهمهم هموم ومشاكل الشعب في شيء، إلا كوقود لشعاراتهم الانتخابية البئيسة، مما أساء عموما للعمل السياسي الذي يعتبر الواجهة الوحيدة لإحداث التغيير للأفضل في الوطن.

إن بعض الدعوات الموجهة من الإعلام أو بعض الشخصيات العامة والتي تطالب الشباب بالبقاء في الوطن وعدم الهجرة نحو الخارج من أجل المشاركة في بناء صرح الوطن الحديث وغيرها من الشعارات، والتي تشدد على أنه من الوطنية البقاء وأن الهجرة هي هروب من المسؤولية مروجين لأمثلة وأحاديث شعبية من قبيل أن "قطران بلادي أفضل من عسل البلدان"، وإن كانت ذات نية حسنة إلا أنها لم تعد تلقى اهتماما أو تقديرا من طرف هؤلاء، فالشباب لديهم حجة قوية للرحيل، ليبحثوا لهم عن أفاق جديدة يحققون فيها ما لم تسمح لهم الظروف في وطنهم الأم بتحقيقها. لذلك نقول لكل هؤلاء، وما دام أن الوضع ما زال على حاله من الجمود وعدم توفير البديل لهؤلاء الشباب في وطنهم: من فضلكم، لا تلوموهم إن هم اختاروا الرحيل!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.