شعار قسم مدونات

لماذا يغيبُ التحضر في سيكولوجية القطيع؟

blogs مجتمع

قدرتنا على التأقلم والعيش ضمن مجموعات من بين أهم الأشياء التي تلاعبت إيجابًا بمصيرنا. لقد استطاع أجدادنا رغم ضعف قوتهم البدنية، مقارنة بمن حولهم، أن يضمنوا استمرار نسلهم لأنهم كانوا قادرين على ضبط التنظيم الكلي للجماعة وإن زاد تعدادها عن مئات الأشخاص، وذلك عبر سن قوانين، بنود وأفكار خرافية في بعض الأحيان، في مسعى لتنظيم العلاقات بين مختلف أفراد القطيع. لقد كانت نقطة القوة هاته هي الفيصل في الصراع مع باقي الفصائل الإنسية الأخرى كالنياندرتال (الإنسان البدائي)، والذي يُعزى انقراضهم لتطورنا وتميزنا بالتنظيم على عكسهم.

هذا المقال جاء كمحاولة لطرح تساؤل علمي ونفسي بعد انتشار فيديو لمجموعة من الأشخاص أثناء تعنيفهم لرجل وفتاة وُجدَا في سيارة في منطقة بعيدة وخالية. لم تسلم الفتاة من الضرب والجرح رغم استمرارها في إخبارهم أنها تزور المكان لإنجاز بحثها الدراسي وكون الرجل الذي يرافقها مجرد سائق سيارة نقل. هذا الفيديو المفجع يدفع بشكل مباشر للتساؤل عن السلوك النفسي للبشر أثناء تواجدهم في شكل جماعي متماسك لتحقيق غاية موحدة.

من القبيلة، استمد الكائن البشري قيمه ومعاييره التي يحكم به على ما يقع حوله ويؤطر بها علاقاته وأفعاله وتفاصيل حياته التي ترتبط بحياة القطيع ككل. حيثُ على كل فرد من القبيلة أن يدرك مدى تأثير الجماعة على سلوكه باعتباره عضوا فيها ومتفاعلًا معها، وحيث أن لكل جماعة قيمًا ومعايير وأنماطًا معينة من السلوك والأفكار والآراء والمعتقدات التي تتوقعها من المنتمين اليها، فضلا أنها تعمل على صهر قيم الانسان في صورة تتناسب مع قيمها ومعاييرها، وتحاول أن تلقنه أعمالا معينة أو تعلمه أنماطًا معينة من التفكير والسلوك، فإن على الفرد أن يتعلم القيام بالأدوار ويعتنق القيم ويؤمن بالأفكار التي تسود الجماعة التي يعيش بينها، حتى وإن لم يكن مقتنعًا بها.

وجود الإنسان بين حشد من أقرانه يمنحه شعورًا كبيرًا بالأمان الغريزي، مما يسمح للمشاعر المكبوتة في الظهور دون أدنى تفكير فيما يمكن أن يترتب عنها

كمقابل لإخلاصك للفكر والاعتقاد، فإن القطيع سيكافئك بضمان حمايتك ومساعدتك في تلبية حاجياتك الضرورية. بالإضافة إلى مساهمتك في نشر ثقافة القطيع. عدد أكبر من المنتسبين الجدد، يعني قوة أكبر، حماية أكبر، ومدة بقاء أطول. يتملك القطيع خوف هستيري وعدم ثقة بكل ما يراه جديدًا من الأشياء أو الكائنات الأخرى، وكل محاولة لنبذ معتقداته أو محاولة نقدها تجد في مواجهتها سيلاً من ردود الأفعال العنيفة. إنه أمر شبيه بمحاولة التطاول على حُرمة القطيع وبمثابة هجوم على صرحه المصون. ستعاني الأمرين وأنت تحاول أن تُناقشهم في قيمهم ومنظومتهم وكل ما اتفقوا عليه.

وجود الإنسان بين حشد من أقرانه يمنحه شعورًا كبيرًا بالأمان الغريزي، مما يسمح للمشاعر المكبوتة في الظهور دون أدنى تفكير فيما يمكن أن يترتب عنها. مظاهر العنف التي نراها في ملاعب كرة القدم لا تعنى بالضرورة أن كل فرد سيء السلوك. تواجدهم في شكل مجموعات منحهم الإحساس بالأمان الجماعي مما دفعهم لاقتراف أفعال شنيعة لم يستطيعوا استشعار خطورتها إلا بعض تفرقتهم. والغريب في الأمر أن أغلبية الأفراد صُدموا مما اقترفته أيديهم بعد مشاهدتهم لتسجيلات أحداث العنف التي جرت في أحد ملاعب كرة القدم. بعيدًا عن العنف والتعصب، يُمكن أن يكون الانتساب للقطيع شيئًا جيدًا إذا وضعت في اعتبارك كل الأخطار والفوائد والأخطاء وكنت قادرًا على الوقوف موقف الحياد بجانب كل توجه يسلكه القطيع.

المحافظة على تنظيمنا وقدراتنا على التعلم من الآخرين والتأثير عليهم. لا شك أن هذه الآليات المدمجة هي منتجات تطورية خدمت بقاءنا وأسهمت بشكل أساسي في نجاحنا المتكيف على الأرض. ومع ذلك، فإن هذه الأدوات التكيفية يمكن أن تسبب أخطاءً واضحة في البيئات الحديثة، حيث تكون الترابط بين الأفراد أكثر كثافة، وتكون العوامل الخارجية المتراكمة من السلوكيات الفردية أكبر وأبعد مدى بكثير مقارنة بالبيئات القديمة التي تطور فيها العقل البشري.

 

الفرد الذي لا يؤذي الناس خوفًا من العقاب، يمكن أن يعنفهم ويقتلهم تحت لواء النهي عن المنكر. مما يفسر عدم وجود أي بوصلة أخلاقية لدى مختلف أفراد القطيع
الفرد الذي لا يؤذي الناس خوفًا من العقاب، يمكن أن يعنفهم ويقتلهم تحت لواء النهي عن المنكر. مما يفسر عدم وجود أي بوصلة أخلاقية لدى مختلف أفراد القطيع
 

كل هذا، أدى إلى حيود سيكولوجية القطيع عن غايتها البقائية، مما ساهم في تقسيم البشر إلى قطعان مختلفة، كل يرمي بلغوه ويبني معتقداته وأفكاره عبر قصص خرافية يتناقلها نسل القطيع، ويسعى لإظهار زيف معتقدات القطعان الأخرى. هذه المعتقدات الراسخة قد تكون سببًا في افتعال العنف اللفظي والجسدي بين مختلف القطعان في حال تناقضت الأطراف. الثقافة الاجتماعية تؤسس سيكولوجية الفرد، وكل فرد يُعتبر حارسَ هذه الثقافة ومدافعًا عنها. انتقادك لها هو بمثابة إعلان الحرب على القطيع فتتزعزع سيكولوجية الانتماء هي الأخرى.

لا يحتاج الأمر لإسقاط مباشر، القسوة والهمجية تتضاعف بفعل الحشد. ذاك الفعل الشنيع المتمثل في ضرب فتاة لمجرد تواجدها مع رجل في منطقة نائية، لم يكن من أجل إحقاق منظومة الأخلاق وحسب. وإنما سلوكًا ينم عن عُقدة نفسية نتيجة للأفكار والأعراف التي تم التعاقد عليها. حيث أن محاولة التعالي على هذه الأعراف باعتبارها خرافات يُصنف كخطر يحوم حول القطيع، ويجب -حسب سيكولوجية القطيع- أن يتم إيقاف هذا الخطر الذي يمكن أن يعصف بمنظومته وتوجهاته. الفرد الذي لا يؤذي الناس خوفًا من العقاب، يمكن أن يعنفهم ويقتلهم تحت لواء النهي عن المنكر. مما يفسر عدم وجود أي بوصلة أخلاقية لدى مختلف أفراد القطيع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان