شعار قسم مدونات

هل تحتاج تضحياتنا إلى تسويق؟

blogs - تضحية
تعد التضحية أحد أصعب الاختبارات التي يتعرض لها الإنسان في الدنيا وتتمثل تحديدًا في التنازل عن رغبة أو الزهد في أمر من أمور الدنيا في سبيل الله حبًا به أو ابتغاءَ لمرضاته في صورة تقديم إجابة على سؤال في اختبار الدنيا الطويل، سؤال تتطلب الإجابة عليه اتخاذ أصعب أنواع الاختيارات على النفس البشرية (التخلي) عما تتعلق به بمختلف أنواعه ودرجاته، أما ما دون ذلك فلا يدعى تضحية! فمن كان لديه اختيارات فيتنازل عن أحدهم مقابل الاحتفاظ باختيار آخر فإنه قد اختار ما يعود عليه بالراحة والسلام ولم يضحي بشيء! إنما ما أقدم عليه هنا هو عملية انتقاء حرة وفقًا لقناعات شخصية ومرجعية ذاتية وترتيب قيمي ومبادئ عامة خاص بالفرد وليس ذلك من التضحية في شيء، فالسعي خلف الإحساس بالسكينة والسلام لا يُعد تضحية وإنما هو مطلب إنساني.

 

وتصبح القضية أكثر تعقيدًا عندما يسئ البشر تحديد أبعاد مفهوم التضحية فيتعامل البعض معها على أنها إذلال للذات أو إلامًا للنفس أو تنازل عن الحقوق ظنًا أنه يفعل ذلك (كمضحٍ) من أجل إسعاد الآخرين وفي الحقيقة أنه يقوم بذلك في سبيل تعويض نقص يتمثل في سوء تقديره واعتزازه بذاته، فاختياره في الحقيقة إنما يعود عليه بذلك التعويض لأن مفهومه عن التنازل يقابل في نفسه مفاهيمًا أخرى من قناعاته الشخصية كمفهومه عن الحب أو العطاء أو البذل وهي في الحقيقة مفاهيمًا بريئة من معاني الإذلال والخنوع والمازوشية والسادية ولا تشبهها في أي شيء، وإنما هي ليست سوى أساليب لإرضاء الذات يتم فيها استغلال تلك المفاهيم الراقية كمبرر لإشباع حاجات نفسية أبسطها الحاجة إلى التعاطف من الآخرين أو مع الذات، وأسباب رسوخ تلك القناعات متعددة فقد تكون ذات علاقة بسمات الشخصية أو أساليب التنشئة أو الموروث الثقافي أو التجارب الشخصية السلبية.
 

الصراع النفسي يستنفذ من طاقتنا ما يفوق الوصف، ذلك الصراع الذي يدور غالبًا حول اتخاذ قرارات تُبنى على معيار خاطئ كُليًا هو معيار تثبيت الصورة المثالية التي يأخذها عنا الآخرون

إن من يضحي في الحقيقة لا يتباهى بتضحيته ولا يتشدق بها ولا يتعمد إظهارها، فقد أقدم على فعل يبتغي به مرضاة الله حتى وإن لم يظهر ذلك بصورة صريحة. إن من يعطي ويبذل حبًا بالله أو خشية منه في سبيل مرضاته لا يتشدق بتضحياته وإنما يقدم عليها دون أن ينتظر شكرًا أو تقديرًا بشريًا، لا يشعر بآلامه أحد سواه ومن قدر الله أن يسخرهم له ممن يدركوه، ما دون ذلك ليس بأكثر من اختيار يتناسب والاحتياج النفسي الغالب ليتحقق نوعًا من التوازن النفسي كل وفقًا لاحتياجه.
 
ومن يضحي لا يطالب بمقابل لتضحيته فمقابل التضحية لا يكون من البشر وإنما يكون من الله الذي بذلت التضحية في سبيله، يقول رسولنا الكريم "إنك لن تدع شيئًا لله عز وجل إلا بدّلك الله به ما هو خير منه" وإلا فإن مفهوم التضحية تشوه ليتحول إلى نوع من المنّ !"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا".. فما من تضحية في سبيل الله تعود على الإنسان بالعذاب والشقاء بل بالسلام والسكينة.. وإن حدث دون ذلك فعلي الإنسان أن يراجع نواياه فيما يتنازل عنه وفيما يقدم.
 
والجدير بالذكر أن من يتوهم التضحية غالبًا ما يتلذذ بتبني دور الضحية، فكم منا يمتلك من القوة ما يكفي لأن يقف لمراجعة ذاته وردعها عن أخطائها دون انتظار لومٍ من الآخرين؟ وأقصد هنا أخطائها الحقيقية وليس عتابًا للذات على ما تم بذله من عطاء، فالبعض يميل إلى أن يدعو ذلك خطأً!.. كم منا يعترف في قرارة ذاته -علي الأقل – بأنه قد أخطأ أو أخفق، بل كم منا يعترف بأنه أجحف وظلم؟!
   
لن أتفاجأ من عدد الاستجابات الإيجابية، فكلنا نظن أننا مُطلقي الصدق مع أنفسنا وبأننا مظلومون في أمر واحدٍ على الأقل بتلك الحياة القاسية، أو ربما غير مُقدَرين حق قدرنا من قِبل الآخرين، ما من أحد يملك من القوة المطلقة أن يعترف بأنه قد ظلم آخرين إلا من أتاه الله من البصيرة والحكمة ما يعينه على إدراك ذلك، والأصعب من ذلك هو الاعتراف بظلم النفس، فنلجأ إلى تبني دور الضحية كحيلة نفسية دفاعية، سواءً لاستجداء تعاطف الآخرين أو لاستجداء تعاطفنا مع أنفسنا على أقل تقدير، فكلما قصصنا حكاية تضحيتنا المزعومة على مسامع الآخرين كلما ازداد الإحساس بنشوة دور الضحية الذي يتحول بالتكرار إلى حالة من اللهفة ويتملكنا بإعادة تكرار الرواية واستقبال نظرات وكلمات التعاطف فيملأنا الشعور بإشباع نقص حاد في تقدير الذات.

   undefined

 

ويتوجب علينا هنا إدراكَ أمرًا بالغ الأهمية ألا وهو أن أغلب ما يقع علينا من الظلم يكون نتاجَ اختياراتنا فنكون بذلك ضحايا أنفسنا، ولا أخص بحديثي ذلك الخلل الحادث في موازين العدالة المجتمعية وإنما نحن بصدد الحديث عن ظلم الإنسان لنفسه والذي غالبًا ما يُلصقه بالآخرين!
على الإنسان أن يجاهد نفسه ليصل إلى درجة صدق عالية مع ذاته، تلك الدرجة التي تقوده إلى تحمل تبعات اختياراته الأولى المبنية على تحديده لما يريد! وتبني درجة صدق مع الذات، تساعده على التركيز في ما أقترفه من أخطاء دون محاولات التنقيب عن مبررات.. على الإنسان أن يدرك رسالته في الحياة وينشغل بتحقيق أهدافها فينعكس ذلك عليه بتقديره لذاته دون انتظار تقدير من الآخرين وهو الباب الخلفي الذي يلوح له دور الضحية من خلاله.
 
علينا أن نوفر الطاقة المبذولة في السعي لإثبات أننا ضحية الآخرين وتحويلها إلى طاقة مبذولة في السعي لإثبات أخطاء اختياراتنا، وحفظ بعض تلك الطاقة أيضًا لتحمّل ألم نتاج ما اقترفناه من أخطاء.

 

إن الصراع النفسي -والذي نتوهم خطأً أنه صراعًا مع الآخرين- يستنفذ من طاقتنا ما يفوق الوصف، ذلك الصراع الذي يدور غالبًا حول اتخاذ قرارات تُبنى على معيار خاطئ كُليًا هو معيار تثبيت الصورة المثالية التي يأخذها عنا الآخرون تلك التي أوحينا إليهم بها متعمدين ذلك أم غير متعمدين.. وذلك إهدار آخر للطاقة، فصورتك أمام نفسك وسلامك النفسي أهم وأولى بالاهتمام من صورتك أمام الآخرين أيًا كانت درجة اعتزازك بهم، فما من إنسان حقيقي يخسر إنسان حقيقي! وإنما يخسر الإنسان نفسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.