شعار قسم مدونات

الاقتصاد المسموم ودولة العسكر في مصر (2)

blogs الجنية المصري

في الحلقة السابقة من هذه السلسلة توقفنا عند طرح سؤال رئيسي وهام حول كيفية تفسير الحالة الفريدة والعجيبة لمنظومة الاقتصاد المصري والتي تخرج علينا فيها مؤسسات دولة السيسي لتعلن عن مؤشرات متتالية تشير إلى تعافي الاقتصاد المصري، في حين يصاحب هذا التعافي المزعوم تدني غير مسبوق في مستوي الحالة المعيشية للأفراد مع استمرار ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض مستوي الجودة الحياتية لأدني مستوياتها وكذلك ارتفاع حد الفقر بصورة غير مسبوقة.

النظرية والمفهوم

وهنا أود الإشارة بأن كريستيان لاكوب Cristian Iacob الباحث بالمعهد الاقتصادي الروماني كان قد طرح تعريفا للمنظومات الاقتصادية الفاشلة في بحثه المنشور عام ٢٠١٥ تطبيقا علي الحالة الرومانية أشار فيه إلى كون المنظومات الاقتصادية الفاشلة تعرف بأنها غير قادرة علي توفير مناخ يعمل علي تحسين مستوي معيشة المواطنين لصورة مستمرة،  كما أن أي كمية من الأموال تضخ في هذه المنظومة تستهلك بصورة غير منتجة. ولا شك بأن هذا التعريف يدعم المفهوم الجديد الذي أطرحه بعنوان الاقتصاد المسموم Toxic Economy وخاصة عند ربطه بالحالة المصرية، أضف إلى ذلك كوني أجزم في ورقتي العلمية والمقالات المصاحبة لها بأن منظومة الاقتصاد المسموم هي منظومة مؤسسية ضاربة بجذور عميقة في تاريخ الدولة العسكرية الحاكمة في مصر.

أعتقد أن السياسيين في مصر منذ عام ١٩٥٢ قد دأبوا علي بعث رسائل كاذبة ومفبركة تصف مجهوداتهم الدائمة من أجل تحسين الظروف المعيشية للطبقة الكادحة ولمحدودي الدخل وتصف إنجازاتهم في هذا المجال، ولم تخلوا أحاديثهم وخطبهم من هذه الأكاذيب في غالبها حيث زادت بصورة غير مسبوقة في عهد السيسي. فعلي سبيل المثال كان جمال عبد الناصر يدعي دائما أنه يبني اقتصادا اشتراكيا يضع الطبقة العاملة علي أول أولياته، وأنه يعمل من أجل رفع مستوي الكادحين في البلاد، ولم يختلف عبد الفتاح السيسي عن هذا الطرح ولم يخرج عن إطار إرسال نفس الرسائل الوهمية والكاذبة ولكن بصورة تناسب المنظومة الاقتصادية التي يعمل من خلالها، فهو يطالب الجميع بالصبر ويعدهم بالرخاء ويحكي لهم قصص المشاريع العملاقة الناجحة والقصة مستمرة.

المنظومة الاقتصادية في عهد السيسي هي منظومة تقوم علي القروض والمساعدات بما في ذلك قرض ال ٢١مليار دولار الروسي لبناء مفاعل الضبعة والذي تحوم حوله الكثير من الأسئلة

ولكن حقيقة الأمر أن الكلام لم يطابق الواقع في تلك المنظومة أبدا، فغالبية السياسات والاستراتيجيات والإصلاحات إذا ما صحت التسمية منذ عهد عبد الناصر وإلي السيسي باتت تركز علي تحسين صورة الاقتصاد الكلي Macroeconomics في عيون العالم من أجل تحسين العلاقات الدولية والحصول علي المزيد من القروض والمساعدات،  فمنذ عهد عبد الناصر الذي وعد المصريين بسفينة الفضاء والقاهر والظافر والجيش المصري الذي دخل تل أبيب، إلى عهد أوهام السيسي وفنكوش القناة وعلاج الإيدز واتخاذ القرارات الاقتصادية المتطرفة كزيادة أسعار تذاكر المترو أضعافا مضاعفة وزيادة الضرائب علي السلع الأساسية ومصر التي ستكون من أغني دول المنطقة وأخيرا الأفضل الذي لم يأتي بعد والذي من الواضح أنه لن يأتي أبدا، والمأساة مستمرة.

ويبدو أن عبد الناصر والسيسي يتشاركان في العديد من ملامح تلك المنظومة السياسية الاقتصادية العجيبة، ففي التقرير السري الصادر عن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA في مايو ١٩٦٦ والذي تم السماح بتداوله في عام ٢٠٠٠، ويحمل عنوان "تقييم الحالة الاقتصادية المصرية في ضوء العجز في الموازنة العامة "Deficit Financing of Economic Progress in Egypt،  أكد التقرير علي أن مصر ستظل معتمدة بصورة كبيرة علي القروض الخارجية، وعلي كون مصر قد حصلت علي مساعدات مالية خارجية أكبر بأربع مرات من تلك التي كانت تحصل عليها من المعسكر الشرقي قبل ذلك.

ويبدو أن السيسي لا يختلف كثيرا عن ذلك، فالمنظومة الاقتصادية في عهده هي منظومة تقوم علي القروض والمساعدات بما في ذلك قرض ال ٢١مليار دولار الروسي لبناء مفاعل الضبعة والذي تحوم حوله الكثير من الأسئلة والشبهات، حيث تم توقيع نفس التعاقد مسبقا في عهد مبارك بقيمة لا تتعدي ربع القيمة الحالية، وأكثر من ١٠ مليارات من الدولارات قروض من الخليج وأضعاف هذا المبلغ كمساعدات غير مستردة، أضف إلى ذلك قرض صندوق النقد الدولي بقيمة ١٢ مليار دولار وغيرها الكثير والكثير، وأخيرا وليس آخرا عقد استيراد الغاز من إسرائيل بقيمة ١٥ مليار دولار والذي وضع مصر في ارتباط اقتصادي حساس  مع عدوها الطبيعي لفترة ليست بالقصيرة.
 
ولا شك أن السيسي وعبد الناصر تجمعهما استراتيجية اقتصادية فاشلة ووهمية  لم تحقق أي رخاء لمصر ولا للمصريين، إضافة إلى ذلك فهما يتشابهان في المنظومة الحاكمة القمعية والتي تغيب فيها الحريات وتمتلئ فيها المعتقلات بالسياسيين ومعتقلي الرأي ويتم استخدام التعذيب الممنهج كوسيلة أساسية لإخضاع المعارضين السياسيين وتصفية الخصوم. أضف إلى ذلك أيضا، أن فترة حكم السيسي توصف بكونها من أشد العصور القمعية والغير آدمية في تاريخ مصر الحديث طبقا لتقارير المراقبين الدوليين والتي تشير إلى تواجد أكثر من ٥٠ ألف معتقل سياسي خلف القضبان، آلاف القتلى في مظاهرات سلمية ومواجهات مع أجهزة الأمن، زيادة مضطردة في عدد حالات الاختفاء القسري وهؤلاء الذين فقدوا حياتهم داخل السجون وبعد خروجهم منها نتيجة لمنهج التعذيب والظروف الغير آدمية داخل المعتقلات.

 

كما تشير التقارير إلى عدد كبير من الفتيات اللاتي تعرضن للاغتصاب داخل أقسام الشرطة وفي غياهب السجون، وكذلك عدد الأطفال في المؤسسات العقابية المصرية، كما تفرد السيسي بكونه الحاكم الوحيد في تاريخ مصر الحديث الذي أعتقل مرشحي الرئاسة في انتخابات ٢٠١٨، هذه كلها حقائق ووقائع يجب أن نتوقف عندها بالتحليل والاستقصاء والدراسة عندما نحاول توصيف المنظومة الاقتصادية المصرية تحت المفهوم الجديد الذي أطرحه هنا في هذا المقال والورقة العلمية المصاحبة، والذي أعرفه -بالاقتصاد المسموم.

تلجئ منظومات الاقتصاد المسموم والأنظمة التي تديرها إلى توظيف جميع الأدوات الإعلامية من أجل تغييب الوعي العام ونشر الأكاذيب والأوهام حول مدي فاعلية سياستها الاقتصادية
تلجئ منظومات الاقتصاد المسموم والأنظمة التي تديرها إلى توظيف جميع الأدوات الإعلامية من أجل تغييب الوعي العام ونشر الأكاذيب والأوهام حول مدي فاعلية سياستها الاقتصادية

التعريف والتوصيف

إن تعريفي المطروح لمنظومة الاقتصاد المسموم يمكن تلخيصه فيما يلي:

إن الاقتصاد المسموم هو ذلك النوع من المنظومات الاقتصادية الذي لا تنعكس أرقام ومؤشرات اقتصاده الكلي على مستوي معيشة الأفراد ولا يخدم التوزيع العادل للثروات داخل المجتمع. ويتبني هذا النوع من المنظومات الاقتصادية سياسات وآليات تضحي بكل مقاييس جودة الحياة للمواطن العادي، وتتجاهل التأثيرات السلبية والمدمرة علي مستوي معيشة المواطنين من أجل تجميل الصورة العامة للنظام من خلال اتفاقيات دولية غير مدروسة كقرض صندوق النقد الدولي الأخير في مصر.

كما أنني أري أن الاقتصاد المسموم هو ذلك النموذج الاقتصادي الذي يوظف آليات وأدوات مجحفة وسياسات اقتصادية متطرفة من أجل تحقيق أهدافه، كما في حالة خفض الدعم علي المحروقات والوقود وزيادة الضرائب وتعويم الجنيه وزيادة أسعار تذاكر وسائل النقل العام في مصر، وتتميز منظومات الاقتصاد المسموم الحاكمة كونها لا تلقي بالا لاعتراض المواطنين علي تلك القرارات والآليات المصاحبة، بل وتوظف القوة القمعية والأجهزة الأمنية من أجل تمرير هذه القرارات وإخضاع المواطنين لها.

كما تلجئ منظومات الاقتصاد المسموم والأنظمة التي تديرها إلى توظيف جميع الأدوات الإعلامية من أجل تغييب الوعي العام ونشر الأكاذيب والأوهام حول مدي فاعلية سياستها الاقتصادية، وتطلب دائما من المواطنين الانتظار والتضحية من أجل يوم الرخاء الذي لا يأتي أبدا، كما يتم توجيه هذه المنظومة الإعلامية الفاسدة لمهاجمة وتخوين أي قلم أو فكر يعترض علي تلك القرارات الاقتصادية أو يحاول نشر الوعي بين المواطنين، ويظهر ذلك جليا في الحالة المصرية عند رصد دور الإعلام الحكومي في مشروع تفريعة قناة السويس والمؤتمر الاقتصادي وقرض صندوق النقد الدولي وغيره.

إن الاقتصاد المسموم هو ذلك النوع من الاقتصاد الذي تبني فيه الأحلام علي أوهام وأكاذيب، ولا تري فيه الأرقام طريقا لحياة المواطنين ولا لواقعهم، فكيف يمكننا فهم العلاقة بين الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي Linking Prosperity to Political Stability في ضوء هذا المفهوم الجديد للاقتصاد المسموم وكيف يمكننا إدراك التأثير المدمر لدولة العسكر في مصر علي المنظومة الاقتصادية المصرية وعلي إمكانية تحقيق الرخاء ورفع مستوي معيشة الأفراد، ذلك ما سوف نحاول إزاحة الستار عنه في الحلقة القادمة من تلك السلسلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.