شعار قسم مدونات

أسلاك العشق وأنا

مدونات - رجل يمشي
على مشارف مدينة مغنية الحدودية بين الجزائر والمغرب كانت إحدى القابعات في المقعد الخلفي تحاول التقاط صورة لغروب الشمس وكنت أنا أمعن التدقيق في ذاكرتي عن كلمات توفي هذا المشهد حقه من رواية الخبز الحافي لمحمد شكري؛ وكل ما جال في خاطري هي صورة هذا المبدع الذي سقى مخيلتي بالعديد من اللوحات المكتوبة عن المدن الحدودية وروعتها.
 

امتزج الفجر بعطر التراب المبلل وصوت الأذان. لقد كان صباحا سينمائيا مشبعا بالحياة والرغبة في العبث بالكون وقواعده؛ قادتنا الطريق إلى النقطة الحدودية المسماة مرسى بن مهيدي هناك امتزج الفن والمغامرة والشغف وسط الأسلاك الشائكة، لوَّح الكل بكلتا يديه لطَّرف الأخر ورقصنا على أنغام أغنية واحدة لقد تبادلنا الحب والسلام والحرية، هناك حلقت القلوب وتعانقت الأرواح بالرغم من الأسلاك والسياسة الفاسدة التي فصلتنا، كيف يعقل أن تفرق البندقية كل هذا الحب والعشق الروحاني المتبادل!

  

في طرف المغربي كانت الجموع تقتل العداء وتعبر عن حبها بالرقص فوق المعبر لا زلت أذكر صاحبة الثوب الأحمر ترقص على حافة الطريق وفي كل حركة تقوم بها يسقط الموت وتزهر الحياة في صدرها وتسحق العداوة في ثغرها الباسم لقد كان الفن هو اغنية السلام التي ينشدها الجميع وباركها الرب من فوق سبع سموات "كيقولو طنجة لي ما شافاتي كتبكي عليه، واللي شافا كيبكي عليها إنها عريقة تهزم كل من يعشقها .." هذه الكلمات للروائي محمد شكري تكفلت بأن جعلتني أبدو صغيرا جدا وبإمكاني التغلغل بين خيوط السياج الشائك وعبور الوادي الفاصل بين البلدين وزيارة كل الأماكن التي قرأت عنها وتخيلتها، رسمتها في داخلي، لكن صوت الرصاص الذي خُيل لي في تلك اللحظة من الشجاعة جعلني أدرك الواقع واتقبل الأمر أنه لا مفر من البقاء هنا في ما يشبه السجن دون أي ردة فعل تذكر. 

  

في تلك الرحلة المغنية التي أكثرها ليل وأقلها نهار سأفني بعضا من نفسي في التخيلات والهلوسات فيما يوحي به السقف العزيز على وجدة في الاسترجاع والتخاطر عليّ وعليها

"هنا أيضا في وهران الحياة ليست سهلة لكننا ما دمنا نستطيع الحصول على الخبز والبصل فإن كرامتنا ستظل مصونة". رواية الخبز الحافي الغريب في هذا الكلام أنه كان في زمن الجوع والمجاعة والموت وقد كان فقراء المغرب يعبرون للجزائر طلبا للقوت والعكس أيضا من الجهة الأخرى لم تكن هناك أية حواجز تعرقل الحياة ولا سياج يعتقل حلم العشاق ولا أي خوف من الموت في الطريق كان الأمر سلسا وممتعا رغم الجوع والرعب ووالخوض في المجهول والنقص في الأموال أما في زمني فكل ما نراه من ترف وطعام ومال وصحة وعافية لم يسمح لنا بأن نعبر لوطننا الآخر لنعيش الحب والأصالة والعراقة كما كان أهلنا سابقا لقد تم احتجاز قلوبنا وحياتنا إنه أمر مؤلم جدا ما يحدث …
 
"أمسيات وهران، في الصيف، طويلة وجميلة الشيوخ يلعبون (الداما) الشبان يتبارزون ابتهاجا (بالمطرك) النساء يجلسن على عتبات منزلهن يتحدثن، الأطفال يتوزعون هنا وهناك يلعبون ويخترعون أشكالا من التراب والخشب والقصب". هكذا وصف شكري الحياة في وهران بأدق تفاصيلها وبهائها ورونق نسائها أما أنا فلم أستطع لحد الآن أن ألامس المدن المغربية العريقة وأخُطَّ حكاياتي فيها وأعيش شغفي في شوارعها فقط كنت أريد أن أداعب مساجدها واهرول على شواطئها، وألعب مع أطفالها تارة أخرى لو كنت في الضفة المقابلة لدخنت بعض الحشيش ونزعت الحدود من مخيلتي ولتحولت البنادق إلى ورود نرميها في الوادي لنعبر إلى بعضنا البعض نتعانق ونضحك ونغني ونرقص لكن واقعنا أقسى من الإدمان والموت..

 

لم تبدو لي وهران عزيزة إلا ّيوم رحيلي ألا إنني أمل مما أحبه؟ سمعت أحدهم يقول: الداخل إلى وهران زربان (مستعجل) والخارج منها هربان (هارب) عاش شكري كلماته ومارس هواه بين المدن العريقة في أسواقها ودكاكينها واستنشق عطر التوابل في أجوائها أما أنا والبقية من الأصدقاء فقد عشنا جزء فقط من بلدان مغاربية زكية العطر وحرمونا من الجزء المكمل لكل هذا الشوق ومنعونا من أن نغمس قلوبنا في نفس الإناء لنَطَّهر من الحقد الذي كسبناه من سياسة حمقاء، في طريق وجدنا هيكل دبابة يبدو أنه من مخلفات الحرب السابقة لم أشعر في تلك اللحظة إلا بالعار والحزن كيف لنا أن نقاتل بعضنا ونحن إخوة مالذي حدث للعالم حتى استبحنا دماء بعضنا..

 

في تلك الرحلة المغنية التي أكثرها ليل وأقلها نهار سأفني بعضا من نفسي في التخيلات والهلوسات فيما يوحي به السقف العزيز على وجدة في الاسترجاع والتخاطر عليّ وعليها فمن يغبطني على هواجسي الهوجاء في هذه المتاهة لأن أجمل الأشياء هي تلك التي يوحي بها الجنون ويكتبها العقل..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.