كما الانفجار النووي، وبدائرة وصل نصف قطرها إلى نصف قطر الكرة الأرضية، حولت نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية آمال وأمنيات كل من راهن على إسقاط التجربة التركية إلى رماد. لم تكن شأنا داخليا تركيا، فالانتخابات التاريخية التي حولت تركيا إلى النظام الرئاسي بقيادة رجب طيب أردوغان كانت شانا دوليا بامتياز. فيكفيك أن تطلع على عناوين الأخبار العالمية، وافتتاحيات كبريات الصحف الدولية في الفترة التي سبقت تنظيم الاستحقاق الديمقراطي، مرورا بيوم الانتخابات ووصولا إلى إعلان النتائج وما بعدها، لتتأكد تماما من الأهمية الاستثنائية للحدث.
تنبع أهمية الحدث من أهمية تركيا نفسها كدولة محورية في المنطقة والعالم. فبينما يتمسك الغرب وحلفاؤه من دول المنطقة بمواضيع حقوق الإنسان وحرية الصحافة كذرائع واهية لتبرير أمنياتهم، بل وتحركاتهم النشطة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية وحتى الفنية للتآمر على التجربة التركية وإسقاطها، فإن الحقيقة الواضحة للقاصي والداني هي أن مواقف هذه الدول مستندة إلى دافعين أساسيين:
الأول: صعود تركيا كدولة لامعة ذات وزن سياسي واقتصادي لا يمكن تجاوزه، وبروزها كتجربة ملهمة تكشف وتعري أكاذيب كثير من الأنظمة البائسة في المنطقة وتطرح نفسها كمنافس من الوزن الثقيل لأعتى الاقتصاديات الغربية.
الثاني: وقوف تركيا بشكل صلب وحازم تجاه كثير من المخططات القذرة التي تتبناها دول غربية بالتعاون مع حلفائها الإقليميين والتي تستهدف تفتيت المنطقة من جهة، وتصفية القضية الفلسطينية وبيع القدس من جهة أخرى.
أخرجت هذه الانتخابات إذن تركيا من عنق الزجاجة، فكانت خطوة جبارة، ولكنها في الوقت عينه كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر |
استنادا لذلك، فإن الصدمة الرهيبة التي شكلتها نتائج الانتخابات لهذه القوى، خاصة فيما يتعلق بالنصر من الجولة الأولى دون الحاجة لتنظيم جولة ثانية من الانتخابات الرئاسية، إنما ترجع إلى انقطاع الأمل بتغيير السياسات التركية الحالية. زد على ذلك بأن تركيا بنظامها الرئاسي الجديد ستكون أقوى وأشرس في المواجهة نظرا لأن هذا النظام سيعطي سلطاتها الحاكمة قوة أكبر ومرونة أكثر في الحركة والمناورة واتخاذ القرارات الحساسة بسرعة وفاعلية.
لقد أخرجت هذه الانتخابات إذن تركيا من عنق الزجاجة، فكانت خطوة جبارة، ولكنها في الوقت عينه كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر. فخسارة المنصب الرئاسي في مثل هذه الحالة لصالح "تحالف الحقبة الماضية"، مع كل ما وضعه الدستور لهذا المنصب من صلاحيات واسعة، كانت ستضع العصي في عجلة التجربة الملهمة وقد تؤدي إلى خسارة كل شيء. فنظرتنا للنظام الرئاسي في تركيا هي أنه سلاح ذو حدين. فإن استخدم في البناء فبناء.. وإن استخدم في الهدم فهدام. لذلك يجب الحرص الشديد حتى لا يقع هذا المارد في الأيادي الخطأ.
العديد ممن قابلتهم وناقشت معهم مستقبل الحياة السياسية في تركيا في ظل التحول للنظام الرئاسي يلمحون لتخوفهم من انزلاق البلاد إلى متاهات الدكتاتورية والتسلط. في الحقيقة قد تبدو وجهة النظر هذه منطقية وواقعية، خاصة في ظل التجارب المأساوية التي تعيشها كثير من دول المنطقة من استبداد وتسلط مرافقين لتركيز السلطة في يد "القائد المفدى".
فهل نستطيع تسمية رجب طيب أردوغان، الرئيس القوي ذو الصلاحيات الواسعة، بالدكتاتور؟ للإجابة على هذا التساؤل المشروع دعونا بداية نعرف الديكتاتورية. وفقا لناتاشا ايزرو، أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة أسكس البريطانية، فإن الدكتاتورية يمكن أن تعرف كشكل من الحكم الاستبدادي يتصف بوجود قائد واحد أو عدد قليل من القادة، عدم وجود حزب أو وجود أحزاب ضعيفة، تعبئة جماهيرية هزيلة وتعددية سياسية محدودة. تترافق هذه الحالة عموما مع قمع شديد للحريات من أجل فرض منهج واحد أو أيديولوجية واحدة وهي أيديولوجية القائد الأوحد أو الحزب الأوحد.

إن المراقب للمشهد التركي يلاحظ بوضوح:
* وجود عدد من الأحزاب السياسية المتنافسة بقوة على مقاعد البرلمان.
* وجود خمسة من المرشحين الرئاسيين الحقيقيين وليس الكومبارس كما هو الحال في بعض الدول الأخرى (حصل محرم انجه مثلا على أكثر من ثلاثين بالمئة من الأصوات)، مما يؤشر إلى وجود تعددية سياسية حقيقية في تركية.
* أضف إلى ذلك بأن التعبئة الجماهيرية الهائلة في تركيا ليست محل شك ولا جدال. فقد وصلت نسبة الأتراك الذين أدلوا بأصواتهم في هذه الانتخابات إلى قرابة التسعين في المئة، وهي نسبة تضاهي، بل وتزيد عن نسب المشاركة في أعتى الديمقراطيات الغربية.
أما بالنسبة لفرض أفكار أو أيديولوجيات الحزب الحاكم فهو شيء لا وجود له على أرض الواقع في تركيا. فالشعب التركي بات في حقبة حزب العدالة والتنمية يملك حرية الاعتقاد والتوجه السياسي، وذلك بعكس الحقبة الماضية حيث كان المسلمون الأتراك الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من الشعب مقموعون ومقيدون في ممارسة شعائرهم.
من ناحية أخرى، قد يحاجج البعض في أن الانتخابات التركية ليست حرة نظرا لأنها جرت في ظل فرض حالة الطوارئ في البلاد منذ العام 2016 بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، إلا أن هذه الحجة ليست أبدا في محلها. ففرنسا مثلا أجرت انتخاباتها الرئاسية الأخيرة في ظل فرض حالة الطوارئ في البلاد، وهذا لم يعتبر في حينها عيبا قاتلا في الديمقراطية الفرنسية.. فلماذا يعتبر كذلك في الحالة التركية؟
جرت الانتخابات الأخيرة إذن وأشرف عليها مراقبون دوليون وكانت نتيجتها أن وضعت صناديق الاقتراع رجب طيب أردوغان في منصب الرئيس الأول في ظل التعديلات الجديدة. استنادا لكل ذلك لا يمكننا القول بأن المشهد في تركيا اليوم هو مشهد دكتاتوري لأن عناصر وخصائص النظام الدكتاتوري ليست موجودة في الحالة التركية. فوجود أردوغان كرجل قوي يملك الكثير من الصلاحيات ليس كافيا لاعتباره دكتاتورا. فالرجل لم يفرض النظام الرئاسي فرضا على الأتراك بل استفتاهم فيه فوافقوا، كما أنه لم يفرض نفسه رئيسا عليهم. ولم يأت لسدة الحكم على ظهر دبابة، بل رشح نفسه من بين مرشحين أخرين فوضعته صناديق الاقتراع في قمة الهرم.
ليس من المنطقي أن نصف شخصا بأنه دكتاتور لمجرد أنه متشبث بالسلطة، طالما أن بقاءه في موقع المسؤولية دستوري وقانوني |
وقبل الختام نود أن نضيف نقطة أخرى مهمة متعلقة بالبعد النفسي. فالدكتاتورية هي في جوهرها موضوع سيكولوجي لأنها تمثل نوعا من الهوس بالسلطة والتشبث بها وعدم قدرة الشخص على تركها أو التخلي عنها ليرى غيره في سدتها. إلا أنه مع ذلك لا بد لنا من توضيح نقطة مهمة للغاية:
إن التشبث بالسلطة موضوع ليس سيئا بحد ذاته طالما أنه يتم ضمن الطرق القانونية والمشروعة. لذلك فليس من المنطقي أن نصف شخصا بأنه دكتاتور لمجرد أنه متشبث بالسلطة، طالما أن بقاءه في موقع المسؤولية دستوري وقانوني. ولا بد من أخذ العلم بأن الهدف الطبيعي والمشروع لكل سياسي هو الوصول للسلطة والبقاء فيها. فأنجيلا ميركل على سبيل المثال في منصب مستشارة ألمانيا منذ العام 2005 وتطمح للاستمرار.
استنادا لذلك فلا يمكن أن يوصف بقاء أردوغان في السلطة على مدى كل هذه السنوات منذ عام 2003 وحتى اليوم بأنه دكتاتورية طالما أنه باق بإرادة الشعب ومحتكما إلى صناديق الاقتراع بشكل فعلي وحقيقي، وهذا ما أثبته يقينا خروج الشعب التركي للدفاع عن زعيمهم ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة. بل أن نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة أظهرت تفوق أردوغان كشخص حتى على حزب العدالة والتنمية نفسه.. مما يثبت بأن أردوغان يستمد شرعية بقائه من إرادة الشعب فعليا وليس صوريا ووهميا كما هو الحال في كثير من الدول الأخرى التي قد تدعي الديمقراطية والديمقراطية منها براء.
وأخيرا وليس آخرا، فإننا نرى بأن أكثر خاصية تميز الرجل الدكتاتور هي سعيه للبقاء في السلطة إلى الأبد، ليس في حياته فقط، ولكن بعد مماته أيضا، وذلك من خلال توريثها لأحد أبنائه. والأمثلة على ذلك من حولنا كثيرة للغاية من الأسد إلى حسني مبارك إلى علي عبد الله صالح وغيرهم. كل هؤلاء الرؤساء في دول يفترض أنها جمهوريات وليس ملكيات، كان همهم الكبير وشغلهم الشاغل هو كيفية إيصال السلطة لأبنائهم، وهذا برأينا ما يمكن أن يكشف عن جانب كبير من نفسية الرئيس ويقدم دليلا ذو قيمة على أنه دكتاتور.
إن رجب طيب أردوغان لا يبدو أنه ينتمي لهذا الصنف من القادة، إذ أنه ليس هناك أي دليل عملي يشير إلى أن الرجل يجهز أحد أبنائه لخلافته ولا يبدو أن هذا الموضوع يشكل هما أو شاغلا له. في المحصلة لا نستطيع أن نجد أدلة مقنعة تفيد بأن رجب طيب أردوغان، رئيس تركيا القوي، هو دكتاتور، وأن كل ما يتهم به الرجل في هذا المجال هو محض ترهات لا تستند إلى أي أدلة ملموسة على الأرض.