قديما لم يكن ذلك الصخب التكنولوجي طاغياً ومهيمنا على كل مفاصل الحياة. ولم يكن القوم ينامون ويستيقظون وهواتف بعضهم أقرب إليهم من أهلهم وولدهم. هناك في قرية نائية لا يتجاوز عدد مساكنها أصابع اليد الواحدة، كانت أقصى أماني العائلات أن تمتلك راديو ينقل إليهم أخبار ذلك العالم الواسع الذي تحول في عصرنا إلى قرية أصغر من تلك القرية الهادئة الوادعة، التي لم تعد كذلك حتى وإن بقي عدد بيوتها كما هو.
في تلك البيئة الهادئة كانت تلك اللقيمات اليومية خاصة موعد العَشاءْ موعداً مقدساً لالتقاء كل أفراد العائلة، وفي مواقيت أشبه بمواقيت الصلاة في قدسيتها كانت تلتف العائلة حول المائدة -التي ربما كانت فارغه إلا من اليسير من الطعام- في تجمع صغير يغني عن العالم بأسره في دفء المشاعر وقوة الترابط المجتمعي الذي أصبح مهددا تحت هذا التغريب الرهيب الذي نحياه.
على رأس تلك المائدة اليومية معلوم بالضرورة من هو ربها (رب الأسرة) ولا يمكن أن يتقدمه أحد، أو ينازعه في مكانته أو حتى يرفع عينيه في وجهه، ليس كونه رب الأسرة فحسب وإنما لتلك الهيبة التي كست شخصيته، وجعلته في غنى عن الحديث، ففي أحيان كثيرة يكفيه بعض نظرات حتى يعلم الجميع ما يريد، بل يعلم كل فرد ما المطلوب منه على وجه التحديد. كان حبه يتدفق لكل أبنائه التسعة كبيرهم وصغيرهم (أنا أصغرهم)، حتى وإن غاب التعبير اللفظي عن تلك المشاعر الفياضة التي تعجز قواميس اللغة عن وصفها.
علينا أن نتحدث مع أبنائنا وأن ندعو لهم بظهر الغيب وبالصدقة عنهم أن يحفظهم الله، وبنوافلنا لتنير دروبهم، وكل ذلك لا يغني عن مجالستهم والاستماع لآرائهم |
أعلاه، مشهد سريع متخيل لأسرتي في قريتي الصغيرة التي نشأت بها، لكن بعد أن فارق أبي تلك الحياة وأنا ابن الخامسة، فلا أذكر صورة لتلك المائدة التي جلس على رأسها، أو حتى صورة لسيدها، لكني يا أبي أشعر بسيل حبك المتدفق.
ربما أدركت حجم ذلك الحب عقب أن تزوجت وصار لي أبناء أجالسهم فأستحضر تلك الصورة التي رسمتها لأسرتنا آنذاك في تلك القرية الصغيرة النائية، لكني أشهد الله يا أبي أن (كلماتك الصامتة) التي لم أسمعها بأذني ولكني أعيشها بقلبي، هي نبراس حياتي ونور طريقي في هذا الكون الذي تموج فيه طغيان المادة. فصلاحك يا أبي هو حديثك الموصول الذي لم ينقطع أثره في حياتي، وكلما قرأت قوله تعالى "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا" أبصرت ذلك في دربي، على قلة ما تركت لنا من متاع زائل من عرض تلك الدنيا. فأنا يا أبي لا أخطو خطوة إلا وأتمثل دعائك لي رغم أني لم أسمعه، وأجد أثر صلاحك في كل تفاصيل حياتي، وكيف لا وربي يقول "إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ"، وأنا أثر من آثارك التي أسأل الله أن يجعلها كلها طيبة وصالحة وفي ميزان حسناتك.
ربما ليست هناك صورة لك لأملأ بها عيني، لكني أملأ قلبي بحبك، وبحديثك (صلاحك) الذي يملأ على وجداني ولا ينقطع صداه عن كافة شؤني. هاتفي مليء بمئات الصور لأبنائي لكن صورتك -التي لم أرها- تتصدر كافة الصور، بل أكبر من أن يتسع لها ذاكرة هاتفي. حديثك لي وإن غابت كلماته فقد حضرت آثاره. لذا، فأنت الغائب الحاضر ولا يسعني ألا أن أردد (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
في كتابه "أبناؤنا جواهر ولكننا حدادون" يرى مؤلف الكتاب أن عملية التربية للأبناء تمر بثلاث مراحل: أولها بناء الثقة، واصطياد الإيجابيات وتنميتها والثناء عليها وتعظيمها والاستفادة منها، ثم إعادة توجيه السلبيات وتحويلها لإيجابيات. لذا فعلينا أن نتحدث مع أبنائنا وأن ندعو لهم بظهر الغيب وبالصدقة عنهم أن يحفظهم الله، وبنوافلنا لتنير دروبهم، وكل ذلك لا يغني عن مجالستهم والاستماع لآرائهم وتعلم السبل الصحيحة في تربيتهم وتنشئتهم، فكلمات الآباء للأبناء مصدر فخر وثقة وإلهام وعطاء، ولحديثك يا أبي طعم خاص.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.