وفي الشارعِ الأردني لم تكن المملكة بعيدة عن كل هذا الصخبِ بل كانت في وسط النار التي تستعر وتحرق كل من حولها دون انتهاء، وعلى الرغم من رغبةِ الشارع الأردني بالإصلاح، وطرح منهج عمل شمولي بأي طريقة، إلا أن الصبر تجاه الإدارة السياسية كان واضحًا للحد الذي طرحَ الجميع تساؤلا ملحًا مفاده: وماذا بعد؟ ماذا بعد كل هذا السكوت وهذا التغاضي عن التجاوزات واللاالتزام في منهج الإصلاح الملكي والشعبوي؟
وفي ساعةِ الصفر وتاريخ الإجابة عن السؤال الملح: ماذا بعد؟ خرجَ الشعب بكل وعيهِ ومصابرتهِ وحرصهِ إلى الشارع، وبالتحديد إلى المنطقة المحيطة بمقرِ رئاسة الوزارة، خرجَ الشعب وبدا حالُ المرابطين خلف الأخبار متسمًا بالهلعِ، وحالُ سؤالهم من: ماذا بعد إلى ما الذي سيحصل؟ وهل سيكون النموذج مطابق للنماذج في الشارع العربي للدولِ المجاورةِ، بدا المشهدُ دافئًا فالربيع هنا مختلف.
وفي تمحيصٍ لترتيب الأسبابِ التي من الممكن أنْ تقودَ المشهد في الشارع الأردني لطريقٍ مغايرةٍ عن كل الطرقِ التي ذهبت إليها حالة الربيع في البلدان العربية المجاورة أرى:
لم يكن شعار "الوطن أولا" عبارة تُكتب أو كلمات تُقال فقط، بل أثبت الشارع مع إداراته الامنية أنَّ هناك انضباطًا واضحًا حول هذه الفكرة وتبنيها إلى حدٍ كبير |
وهذا يدفع لاحتواء المشهد، ومن شأنه أنْ يخلقَ مساحةَ حوارٍ واسعةٍ ليس بين الملك والشعب على العكس لأنَّ الشعب والملك يمتلكون نظرة واحدة واتجاهًا للأهداف محدد، لتكون هذه المساحة بين الشعب ومليكه من طرف وبين الحكومة من طرف أخر .ولهذا كانَ خروجُ الشعبِ مؤيدًا من الإدارةِ الملكيةِ بصورة أساسية، مع الدعوةِ إلى ضبط النفس ووضع اعتبارات الوطن ومؤسساته وشعبه في أعلى الاعتبارات.
من السيء جدًا أنْ تبدأ حركتنا الإصلاحية دون أي تبني لأفكار إصلاحية واقعية وعملية وناضجة من الجانب السلمي والتطبيقي، لهذا فإنَّ البناء الإصلاحي يبدأ من الفكرة أولً ا، ولهذا كانتْ الافكار المتبناة من قبل الشباب الأردني واعيةً وناضجة بما تكفي للانطلاق نحو الشارع، وعلى الجانب الأخر فإنه من السيء ألا نتعلم إلا من تجاربنا فقط، لهذا كان الشارع الأردني واعيًا للتعلم من جميع التجارب التي نضحتْ بها البلدان المجاورة، ووجود القابلية لهذا الوعي وهذا التعلم أعان الكثير من الشباب على تبني رؤى للعمل الإصلاحي، وبناء صورة ذات مغزى وخالية من الأخطاء إلى -حدٍ ما- في الخروج إلى الشارع والبدء برفع الأصوات فوقَ طاولات الوزارات والحكومات.
هذا الشعار لم يكن عبارة تُكتب أو كلمات تُقال فقط، بل أثبت الشارع مع إداراته الامنية أنَّ هناك انضباطًا واضحًا حول هذه الفكرة وتبنيها إلى حدٍ كبير ساعد في خلق جو تعبيري وسلمي بعيد عن أي مشاحنات أو شرارات من شأنها أن تُصعد الوضع أو تنقله إلى طريق مسدود .
كانت الاستجابة الملكية والأمنية واضحة، وليس فقط لرغبات الشعب أو الشارع بل كانت استجابة لرؤية وأمنيات واضحة بالوصول للوطن إلى بر الأمان ورفع كفاءة العطاء السياسي والعمل الإصلاحي فيه، لهذا أتت الاستجابة من أصحاب القرار – والملك تحديدًا – سريعة بالصورة التي حسنتْ من عمل الشباب الإصلاحي في الشارع الأردني .
وفي التجربة الأردنية تحتاج الاستمرارية إلى وضع منهج عمل جدي وشمولي وتكاثف الجهود للوصول إلى نقطة إصلاح واضحة يتم من خلالها الانطلاق نحو المشاريع الأخرى في التطوير والتحديث.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.