شعار قسم مدونات

نحن متناقضون بالفطرة.. ويسكن داخلنا بائعُ خمر!

BLOGS تناقض

في الحيّ الذي كنَّا نعيش فيه في جنوب دمشق، كان جارنا بائع خمر، إذ كان يبيعه في منزله، وكان يوجد أيضاً في نفس الحيّ بيت دعارة! أجل بيت دعارة وبائع خمر في شارعٍ واحد، وأنا عشت جُلَّ عمري في ذلك الشارع بين منزل بيع الخمر وبيت الدعارة، إلى أنْ نزحنا عنه -مُكرَهين- في 2012!

وكان بعض الشباب "التائه" -سواء من الذين يتردَّدون على الحيِّ من خارجه أو من الذين يسكنون ذلك الحيّ- يعمل طوال اليوم ليأتي في آخر النهار فيشتري بالمال الذي عمل به زجاجةَ خمر ويقضي سويعات في بيت الدعارة! ويعيدون هذا الفعل عدّة مرَّاتٍ خلال الأسبوع الواحد. وبسبب بيت الدَّعارة هذا الموجود في الحيّ كان بيعُ الخمر كثيرٌ نسبيَّاً والزبائن كُثرٌ أيضاً.

وبعكس الصورة النمطيّة السيّئة لبائع الخمر؛ حيث إنّه رجلٌ استغلاليّ سكّير ظالم غليظ كما يُصوَّرُ لنا، كان يدهشني في بائع الخمر ذاك (جارنا) أنّي كنتُ لا أكادُ أراه دون أن أرى بيده القرآن الكريم يقرأُ به بتأمُّل وتمعُّن، وكان لطيفاً وودوداً جدّاً ومحترماً إلى أبعد الحدود مع الجميع، ولا يشرب الخمرَ أبداً، وعندما فتح دُكَّاناً كان كثير الكرم مع زبائنه.

بائع الخمر ذاك لا يجب أنْ نراه غريباً علينا، فهو قريبٌ جدّاً منّا، من أفعالنا وحركاتنا وأقوالنا وتصرّفاتنا، وقد مضى علينا منذ أيّام أكبر دليلٍ على تناقضنا ألا وهو "رمضان"

كان يحثّني دائماً على متابعة الدراسة مهما اعترضتني من صعوبات وأنْ أتمسّك بديني كما أتمسّك بدراستي في هذا المحيط المليء بالمشكلات الاجتماعية، ويطلبُ مني أن أبقى مستمرَّاً في لعب كرة القدم وأحاول أن أحترفها في أحد الأندية إذا ما سنحت لي الفرصة. كانت نصائحه إيجابيّةً ومفيدةُ جدَّاً لي، في حين أنّ أبناءه كانوا سكّيرين فاشلين على كلّ الأصعدة تقريباً، فلا عمل يحفظهم ولا وازِعَ أو خوفٍ على حياتهم يعصمهم؛ فقد مات اثنين من أبنائه تاركَين خلفهم زوجاتٍ وأولاداً صغاراً، كما كاد الثالث أن يموتَ أيضاً بسبب تشمّع الكبد الناتج عن كثرة شرب الخمر!

هذا التناقض العجيب لدى بائع الخمر ذاك كان يجعلني في حيرةٍ من أمري ليدور في رأسي تساؤلٌ يقول: هل هذا طبيعيّ؟! هل كلُّ هذا التناقض هو من طبيعتنا كبشر؟! ثمَّ مع مرور السنين وخوضِ مزيدٍ من التجارب في هذه الحياة وبداية اختلاطي مع أناسٍ جُدد وازدياد المجالات التي دخلتُ فيها خارج هذا المحيط المتردّي أخذت هذه الحيرة وتلك الدَّهشة بالتبدُّد شيئاً فشيئاً وبدأتْ تتكشّف لي إجابات عن تلك الأسئلة، وهذه الإجابات لم تكن منطقيّةً أبداً، ولكنّها حقيقيّة -في رأيي على الأقل-!

في الحقيقة علينا الاعتراف بدايةً أنّنا في كثيرٍ من أفعالنا متناقضون دون أنْ نشعر؛ وهذا يقودنا لأنْ نوقن أنّنا مفطورون على التناقض كفطرتنا على الأنانية والحب والكره والحقد والتعصّب و"النَّكد" واللُّطف. إنّه فعلٌ إنسانيٌّ موجودٌ في جيناتنا، التي يمكن أن يدخلها التناقض أيضاً! فلننظر في نفوسنا أوَّلاً؛ أليسَ في كلِّ واحدٍ منّا يوجد ذاك البائع؟!

بائع الخمر ذاك لا يجب أنْ نراه غريباً علينا، فهو قريبٌ جدّاً منّا، من أفعالنا وحركاتنا وأقوالنا وتصرّفاتنا، وقد مضى علينا منذ أيّام أكبر دليلٍ على تناقضنا ألا وهو "رمضان"، فقط قارن بين ما تقوم به في رمضان وبين ما كنت تقوم به قبل رمضان وما تقوم به في هذه الأيام بعد رمضان! ألسنا في معظمنا لدينا من حبّ فعل الخير شيء، لكنّنا في الغالب لسنا مستعدّين لبذلِ أيّ شيءٍ سواء أكان مادّيَّاً أم معنويَّاً في سبيله؟! ألسنا بذلك نتحوّل من أناسٍ مضطرِّين للعطاء إلى أناسٍ كارهين له مستعدِّين فقط للأخذ ولاستقبال العطاء المعنويّ والمادّي على حدٍّ سواء؟! مع كلّ هذا الكمّ من التناقض الحقيقيّ الموجود في النَّفس البشريَّة لا نستطيع إلَّا أنْ نتساءلَ: هل نحن طبيعيّون مع هذا التَّناقض الذي يسكننا أم أنَّنا كجنسٍ بشريّ نعاني من مرضٍ سبّبه فيروسٌ ما دخل الجسم البشريّ لأسلافنا قبل عشرات آلاف السنين وانتقل بالوراثة إلينا جيلاً بعد جيل؟!

إذا كان هذا الزَّعم بشأن الفيروس الذي يسكننا عبر آلاف السنين صحيحاً، فيجب علينا البحث عن الإنسان الحقيقيّ الطبيعيّ؛ ووفقاً لذلك يكون هو الإنسان الخالي من التناقض! وإذا لم يكن هذا الزَّعم صحيحاً، فنحن أمام حقيقة مفادها أنَّ النَّفس البشريَّة هي عبارةٌ عن تركيب واجتماع مجموعةٍ من التَّناقضات داخلها، وبذلك يتأكَّدُ زَعمي في أنَّنا مفطورون على التَّناقض وأنَّ في داخل كلِّ واحدٍ منَّا بائعُ الخمرِ ذاك! 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان