شعار قسم مدونات

الأوصياء على الناس ضحايا أنفسهم وجلادو غيرهم!

blogs حديث، حوار، عمل

حين أشفقت الجبالُ والسماواتُ من حمل الأمانة.. دقّ الإنسان على صدره بكل ثقة وقال أنا لها، فنفخ الله تعالى من روحه في صلصال آدم وأعلنه خليفةً له على الأرض أمام الملأ الأعلى، ومنحه الحرية المطلقة في إرضائه وحتى إسخاطه في حدود إرادته الإلهية العليا، وسلك له من الأرض فجاجًا وأنبت له فيه الزرع والنخيل والأعناب وعلّمه الأسماء كلها ليكون مستعدًّا لاستلام مقاليد السيطرة.. يروض وحوشها ويكتشف أسرارها ويمدّن غاباتِها وأدغالَها ويكون لائقًا بحمل الأمانة الثقيلة التي لا يستسهل حملَها إلا من كان جهولًا ظلومًا.

إن فطرةَ الأفضلية المزروعة في النفس البشرية (الناتجة عن اختياره خليفةً) أهم أسباب بقاء وتطور النوع البشري إلى يومنا هذا، لقد جُبل كل واحد منا على هذه الفطرة فهي من مكونات تركيبتنا الأساسية، أي واحد منا تكون روحه في جانب والعالم كله في الجانب المقابل، له حياة كاملة عميقة في روحه وفكره ومشاعره وحياة مقابلة يطل عليها من نافذة عينيه وجوارحه.. رؤية نفسه أفضلَ أبناء نوعه شعور متجذر في أفعاله وانفعالاته لا يستطيع التخلص منه بسهولة، وهنا تأتي رسائل الله المباشرة الواضحة عبر رسله الكرام لتوجيه هذه النزعة إلى الطريق القويم.. ليصبح التنافس على غايات نبيلة تقلّم المخالبَ الحادة لهذه الفطرة بالقناعة والرضا والزهد وتحفظها من شرور الكبر واحتقار الآخرين وتمنعها من السقوط في أوهام مركزية الكون وجنون العظمة والخلود الأبدي.

حين يقتنع الإنسان بأنه مركز الكون وأن كل شيء يدور في فكله وأن أي شيء يحصل له علاقة مباشرة به فإنه سيصلى جحيم التعاسة التي لا تبردها كل بحار الدنيا

إن أصعب رحلة يخوضها المرء على الإطلاق هي رحلة الخروج عن ذاته! قليلون جدًا من يرون أنفسهم من الخارج بمصداقية ويرون ما حولهم بوضوح، أما أغلب الناس محبوسون في سجون (الأنا) ولا يفلتون منها، من كل الجهات تحدهم أسوار الغواية.. يعتاشون على الوهم ويتزودون بالعبث ويشربون الفراغ صباح مساء في كؤوس من العدم ولا يتقدمون خطوةً واحدة على طريق الإنجاز، تذهب أعمالهم أدراج الرياح ولا يتذوقون طعم الحياة الصافي ويزِنون كل شيء بميزان الأنانية.

حين يقتنع الإنسان بأنه مركز الكون وأن كل شيء يدور في فكله وأن أي شيء يحصل له علاقة مباشرة به فإنه سيصلى جحيم التعاسة التي لا تبردها كل بحار الدنيا، ولن تكون التعاسة مختصة به وحده بل سوف تلحف نيرانُها كل القريبين منه إلى أن ينفضّوا من حوله، حين يرى الإنسان نفسه مركزًا للكون سينصبّ نفسه تلقائيًا وصيًّا على الآخرين، وصيًّا على أفكارهم وأعمالهم وأقوالهم ومشاعرهم ومعتقداتهم ونظرتهم إلى العالم وهو في الحقيقة ليس إلا ضحية شيطانه ونفسه الأمّارة.

إذا وضع نفسه في خانة (رجال الدين) فإنه سيرى الناس جميعًا أقل منه إيمانًا، سيكفر من يشاء ويزكّي من يشاء، سيمنح نفسه حق إعطاء صكوك الغفران أو بالأحرى سيصيبه داؤه بالجنون الذي سيوصله إلى محاولة ممارسة صلاحية الإله بالحكم والحساب والعقاب، ولسنا بعيدين عن هذا النموذج بالعكس إنه الأكثر رواجًا عندنا (من الأوصياء)، أناس نصبوا أنفسهم آلهةً من دون الله يكفرون غالبية الأمة ويجدون في أنفسهم حق الحساب والعقاب فيخربون البلاد ويقتّلون العباد ويسفكون الدماء ويهلكون الحرث والنسل.

و إذا وضع نفسَه في خانة (رجال الدولة) فإنه يرى أبناءَ شعبه عمالًا لديه أو خدمًا عنده حتى، يخوّن من يشاء ويبني المعتقلات ويزج إليها بشباب شعبه لأنهم يدعون إلى الفوضى برأيه ،جيب الدولة جيبه الخاص لا فرق بينهما وثرواتها ثرواته الثمينة وجيشها حارسه الأمين ومقدراتها ملك شخصي لأبيه وأولاده من بعده.. النزاهة عنده أن يظل حاكمًا إلى أن يمل منه جسدُه، والحنكة عنده أن يسرق هو وحاشيته ويغرق البلاد في الديون والجهل والفقر والمرض، وحب الوطن عنده أن يموتَ الشعب ويظلَّ هو ليحمي الوطن!

وإذا نصّب نفسه حاميًا للمجتمع فإنه سيعطي نفسه حق تصنيف الناس، سيستلذ باحتقار عادات مجتمعه، ويستنكر أي صوت إلا صوته ويسفّه كل رأي إلا رأيه، ويرمي بالتهم جزافًا كل من لا يتماشى معه في الرأي والأيدلوجية، فهو الفاهم العالم الذي لا يزلُّ أبدًا وما الناس إلا جهلة عليهم الانصياع إلى أوهامه! لا صواب إلا ما يقول حزبُه فالآخرون كلهم مخطئون متآمرون على حضرته مدعومون بأفكار خارجية لتدمير نظرياته العبقرية! هو الوحيد الذي يريد البناء والجميع يريدون الخراب والدمار!

الأوصياء على الناس ضحايا أنفسهم وجلادو غيرهم، وما عرف التاريخ دكتاتورا ظالمًا إلا كان واحدًا من هؤلاء عدا أنه وجد فرصة لممارسة جنونه
الأوصياء على الناس ضحايا أنفسهم وجلادو غيرهم، وما عرف التاريخ دكتاتورا ظالمًا إلا كان واحدًا من هؤلاء عدا أنه وجد فرصة لممارسة جنونه

إن من سوء حظ الشعوب أن يصل واحد ممن تحدثنا عنهم إلى مركز صنع القرار (الديني أو السياسي أو الاجتماعي)، لأن هذا إن حدث فإنه إيذان ببدء سنوات عجاف سوداء ملطخة بدماء الأبرياء ومخضبّة بآنات المسجونين المظلومين.. سنوات خاوية من الإنجازات مكتظة بالديون والفقر والجهل والمرض وقلة القيمة أمام شعوب الأرض.

يا له من مرض مزمن لعين، إنه غشاوة سميكة على العين، حتى أن المصاب به لا يحتاج إلى الوصول إلى مركز صنع القرار ليمارس جنونه، فقد تجده وحيدًا منبوذًا إلا أنه وفيٌّ لمرضه وجنونه، يسفّه فرحة شعبه بحدث جميل وهو بالكاد مُتابَع من قبل شخصين على مواقع التواصل، يحقّر من الموهوبين المبدعين وهو لم يقرأ في حياته كتابًا ولم يسعَ يومًا إلى الحصول على معلومة وإلى اكتساب خبرة أو تجربة، مثَلُه كمثل الذي يقلل من شأن لاعب كرة قدم عظيم وهو بالكاد يستطيع المشي من ثقل كرشه!

الأوصياء على الناس ضحايا أنفسهم وجلادو غيرهم، وما عرف التاريخ دكتاتورا ظالمًا إلا كان واحدًا من هؤلاء عدا أنه وجد فرصة لممارسة جنونه، إنه الداء الأزلي يا سادة، بأعراضه وأسبابه ذاتها.. من يوم أن غزا قلبَ قابيل إلى اليوم ما يزال ينغص على البشرية حياتها، لا بأس بأن تطمح لتصبح الأفضل وأن تسعى في سبيل ذلك ما استطعت، الثقة بالنفس ضرورة ملحة للتطور والانتماء لعقيدة أو لأيدلوجية ليس شيئًا محرمّا، لكنه من الخبل أن ترى نفسك أفضل من مليارات البشر فقط لأنك أنت أنت ولا سبب آخر.. كثير منا يريدون أن يكونوا الأجمل أو الأغنى أو الأقوى، لكن العاقلين فينا يتصارعون ليكونوا الأعلم والأتقى والأنقى! وهنا يا رفاقي يكمن الاختبار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.