شعار قسم مدونات

كيف تفسر النظريات اللغوية وقع الكلمات على المستمع؟

blogs - philosophy
تحاول هذه التدوينة، الإجابة عن سؤال شغل حيزا كبيرا في الفكر اللغوي منذ القديم، وفحوى السؤال هو: كيف تفسر النظريات اللغوية الحديثة وقع الكلمات على المستمع؟ والسؤال يستمد مشروعيته المعرفية، انطلاقا من كون كل الحوارات الإنسانية في تجلياتها البسيطة والمعقدة، يكون هدفها حمل المتلقي على الاقتناع بما يعرض عليه، أو تغيير رأيه في قضية أو فكرة ما، فالبعد الإقناعي والحجاجي يكون حاضرا في حواراتنا اليومية.

من هذا المنطلق فقوة الكلمة أو سلطة الكلام، من المواضيع المهمة التي خصصت لها دراسات سواء في العصر القديم أو في العصر الحديث، وقد شغلت حيزا كبيرا ومهما في البحث اللساني والتداولي الحديث، خاصة في إطار مبحث فلسفة اللغة ضمن برنامج أفعال الكلام الإنجازية، أو في إطار نظرية التداوليات المدمجة التي ركزت على دراسة الفاعلية الحجاجية، وسنحاول في هذا المقال لفت انتباه القارئ لبعض الإيواليات التي تجعل للكلمات قوة وسلطة، وذلك بالمقارنة بين ما قدمته المقاربة الإنجازي والمقاربة الحجاجية.

  

ولا بد من الإشارة أولا إلى أن النزعة التي كانت سائدة في الدراسات اللغوية الحديثة، كانت تختزل الوظيفة الأساسية للغة، في الوظيفة التواصلية، أي في مفهوم التواصل

وبدءا نشير إلى أن مفهوم القوة إذا كان قد استعمل في الفيزياء وعلم النفس والفيزيولوجيا وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم، فإنه يستعمل كذلك في مجال علم اللغة، وإذا كان هذا المفهوم يشمل في الفيزياء كل ما من شأنه أن يغير وضع الاستقرار أو الحركة بالنسبة لجسم معين، وإذا كان يعني في علم النفس، القدرة الأخلاقية أو الذهنية المتعلقة بالطبع أو بالإرادة، فإن له في مجال اللغة معان ترتبط أيضا بالتأثير والتغيير.(1)

وقد استعمل هذا المصطلح من قبل عدد كبير من رواد حقول معرفية ولغوية كثيرة، لكن سنكتفي في هذا المقال بمقاربة الموضوع انطلاقا مما قدمه رواد مبحث فلسفة اللغة العادية في إطار المقاربة الإنجازية وذلك بالوقوف مع مفهوم القوة الإنجازية، وكذلك في المقاربات الحجاجية ذات الطابع اللساني، انطلاقا من مفهوم القوة الحجاجية، التي توسع فيها "أوزفالد ديكرو" في إطار الحجاجيات اللسانية.(2)

ولا بد من الإشارة أولا إلى أن النزعة التي كانت سائدة في الدراسات اللغوية الحديثة، كانت تختزل الوظيفة الأساسية للغة، في الوظيفة التواصلية، أي في مفهوم التواصل، بما هو عملية يتم بموجبها نقل المعلومات والأخبار، بين مرسل ومرسل إليه، بحيث إن الطرف الأول يزود الطرف الثاني بمعرفة لم يكن يعلمها، ومصطلح التواصل يدور حول معنى المشترك والمشاركة التي تغدو معهما ما كان موزعا بين الكثيرين موحدا ومشتركا بينهم، أي هو " فاعلية تمكن المخاطب من مشاركة المتكلم في معرفة معينة، حيث يصبحان في علاقتهما بهذا المشترك المعرفي كأنهما واحد".(3)

إن هذا التصور المختزل لوظيفة اللغة في عملية التواصل، سوف يصبح محط مساءلة، وذلك بموجب التطور المستمر الذي تعرفه العلوم، وهكذا ظهرت مجموعة من المباحث خاصة التداولية منها التي حاولت أن تفند هذه المسألة، وذلك بالبحث في بنية اللغة عن مظاهر التلفظ والتداول التي تحضر بصورة ما في البنية التركيبية للأقوال والناتجة عن سياقها الاستعمالي، ولعل المبحث المهم في هذا السياق، هو مبحث فلسفة اللغة العادية، الذي من رواده كل من "أوستين" و"سورل" و"كرايس"، في إطار نظرية أفعال الكلام الإنجازية، هذه الأخيرة شكلت منعطفا جديدا في ضبط العلاقة بين اللغة والواقع، بحيث لم يعد ينظر للغة كوسيلة لتمثيل الواقع أو الذهن، بل إنها جهاز يمكن من إنجاز أفعال من نمط معين: كالأمر والوعد والنهي والاستفهام، والوعد والوعيد و التطليق والتعجب والتهديد، وغيرها من الأفعال الكلامية العديدة والمتنوعة.

فاللغة في هذا التصور الجديد لا تنحصر وظيفتها في الإعلام والإخبار، بل إنها تشكل مزيجا من العلاقات الإنسانية التذاوتية، لعبة أكبر كما عبر عن ذلك "ديكرو"، هذا ما جعل سول "ينظر إليها باعتبارها شكلا من أشكال السلوك، محكوم بقواعد".
أي إن اللغة العادية واليومية موضوع الدراسة في إطار نظرية أفعال الكلام، لها وجهين، أولهما القول، وثانيهما الفعل، فعندنا ننطق بالأقوال قد تتضمن هذه الأقوال أفعالا أيضا، وهذا ما حدا بأوستين عنونة كتابه ب "إننا عندما نتكلم فإننا نفعل"، ونمثل لذلك ببعض الأمثلة، أعلن الحكم نهاية المباراة، دخل الطالب للكلية، أهنئك بالوظيفة الجديدة، فالمتكلم في هذه الأمثلة أنجز عدة أفعال هي كالآتي تواليا:
– فعل الانتهاء
– فعل الدخول
– فعل التهنئة

وأن للكلمات قوة عظيمة لا تخفى، وتأثيرا قويا لا ينكر، إن ما يميز مثل هذه الدراسات هو انتماؤها لحقل معرفي هو التداوليات

   

ونجد عند سورل أن إنجاز فعل لغوي ما هو حدث مؤسساتي أي يفرض وجوده بعض المؤسسات البشرية، وهذا ما أشار إليه جاك موشلر بقوله" إن اللغة بحكم طبيعتها العرفية والقانونية والمؤسساتية، وبحكم سلطتها وقوة كلماتها، تكون ملزمة للأنا والآخر وبعبارة أخرى تستعمل للإلزام والاستلزام"، وما نستشفه من خلال ما سبق ذكره هو أننا نستعمل اللغة لإنجاز عدة أفعال، بهدف تغيير الواقع أو تغيير علاقتنا معه وللتأثير في الغير وفي الأشياء ومن هنا تستمد سلطتها وسلطانها، وقوة كلماتها وألفاظها.

ونخصص ما تبق في المقال للحديث عن قوة أو سلطة الكلمة في نظرية الحجاج، يقول موشلير: "حين يتفق الجميع فلا مبرر لما يقال، وحين يكون القول الحجاجي مغلقا فلا يشكل حجاجا"، إذا سلما بفكرة حضور فعل الحجاج في اللغة، فسنحاول أن نقف مع مفهوم القوة الحجاجية لنبين من خلالها بعض مظاهر سلطة الخطاب وقوة الكلام، على أن اللغة لها منطق يحكما سلطتها، وحجاج يضبط بناءها.
" فالحجة عنصر دلالي متضمن في القول، يقدمه المتكلم على أنه يخدم ويؤدي إلى عنصر دلالي آخر، والذي يصيرها حجة، أو يمنحها طبيعتها الحجاجية هو السياق".(1)

 

فالسياق الاستعمالي هو الذي يجعل اللفظة حجة في سياق ما، وليست حجة كذلك في سياق آخر مختلف، فالتداول، يلعب دورا محددا هنا، على أن الحجة قد تكون لفظا أو خطابا. والنصوص والكلمات تحمل في بنيتها قوة حجاجية، إلا أن مظاهر الحجاج كما يقول الدكتور العزاوي، تختلف طبيعته ودرجته، تختلف من نص إلى نص ومن خطاب إلى خطاب، ومن هنا يمكن القول لا تواصل من غير حجاج، ولا حجاج من غير تواصل فيكون التواصل مرتبط بكافة أشكال الفعل اللغوي.

على أن للكلام سلطانا ما بعده سلطان، وأن للكلمات قوة عظيمة لا تخفى، وتأثيرا قويا لا ينكر، إن ما يميز مثل هذه الدراسات هو انتماؤها لحقل معرفي هو التداوليات، هذه الأخيرة استطاعت بفضل مناهجها التحليلية التي تلتقي فيها علوم عدة، بالإضافة إلى اعتمادها على ضوابط البحث الأكاديمي الرصين، والنضج النظري المعتبر، وهذا ما يفسر نجاعتها في تحليل الظواهر اللغوية وسياقات استعمالها، خاصة إذا تعلق الأمر بتفكيك بنية الخطاب بكل أنواعه، سواء الخطاب الاشهاري، أو الخطاب السياسي، أو الخطاب الاجتماعي… في تجلياته البسيطة والمعقدة. وهكذا ننتهي إلى ما انتهى إليه د. أبو بكر العزاوي "إننا نتكلم عامة بقصد التأثير والإقناع".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1-أبو بكر العزاوي، اللغة والحجاج

2- عبدالمالك بلخيري، التداوليات المدمجة

3- رشيد الراضي، المظاهر اللغوية للحجاج، ص: 22

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.