شعار قسم مدونات

موعد ولقاء وبوح كثير..

blogs صلاة

كبّر الإمام تكبيرة الإحرام، وقعت على أذني وكأني أسمعُها للمرة الأولى.. نعم لها صدى صوت في أذني جعلني ألتمسها لأول مرة رُغم أني سمعتها كثيرًا وحضرت لها تفاسيرًا.. لم أنتهى من رفع يدي والتكبير إلا وقد وجدت نفسي أقف متصلبًا.. هناك شيء ما يريدني أن أكون أكثر صلابة الآن، لا أدري لمَ، ولكن كل ما يدور في مخيلتي أني يجب أن أكون حاضرًا بكل ما أملك وكيفما أستطيع..

ما بين التكبيرة والركوع عالم آخر مليء بالانجذاب نحو كل شيء، يبدأ من موضع السجود حيث النظر هناك، وينتهي عند تكبيرة الركوع التي تأخذك إلى العالم الذي يليق بك.. يليق بعبد يعلم أنه عبد.. ركعنا وركعوا جميعًا معلنين الخضوع التام والانكسار والذل لله وحده، الانكسار الذي يقويك عندما تخرج، والذل الذي يجعلك عزيزًا عندما ترفع رأسك.. في أفضل حالات العبودية لله العظيم سبحنا بحمده مقرين أننا خاضعين لله ولأوامره ولنواهيه.. لم أكن أنظر إلى الركوع بهذه الطريقة من قبل، ثمة أمر جعلني أمعن النظر وأنا على هذه الهيئة إلى كيفية فعل هذا ثم الرضا عنه.. كيف للمرء أن يركع ويخضع ذليلًا، ليخرج قويًّا عزيزًا بين الناس إلا إن كان هذا الركوع لله وفي بيت الله!

ثُم قال: سَمِع اللهُ لمن حمده.. رفعتُ رأسي وأنا في ذهولٍ وكأني أسمعُها لأول مرة! ها هو يقول أن الله يسمع من يحمِدهُ الآن، وكأنهُ يقول الآن يجب أن تَحمد الله كما يليق لجلاله.. عِندما سُئل سيدنا موسى عن عصاه: "قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ" طه 18.. علِم أن الله يسمعه فأحسن في الحديث غيرَ أنه زاد وزاد ولم يقُل هي عصاي وسكت، هذا لأنّه أيقنَ أن الله السميع يسمعُ كلماتهُ.. تعلمت أنهُ يجب أن أقف حتى أطمئنَ واقِفًا وأنك الله السميع تسمعُني وأنا أحمَدك، فلابُد أن يكونَ الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد.. حمدًا يليقُ بجلالِك..

هذا الحب الذي يرتقي بك وترتقي به، يجعلك شامخًا بعد انكسار، عزيزًا بعد ذل، إنه حب الله، حب أن تكون عبدًا له، يفرح عند لقائك فيجعلك تفرح ولا تتمنى الذهاب
هذا الحب الذي يرتقي بك وترتقي به، يجعلك شامخًا بعد انكسار، عزيزًا بعد ذل، إنه حب الله، حب أن تكون عبدًا له، يفرح عند لقائك فيجعلك تفرح ولا تتمنى الذهاب
 

سجدنا.. دائمًا ما كنت أسجد ولكنه سجودًا عاديًا كما تعلمته في الصغر، ولكن هذا السجود كان غير الذي أعرف! سجود من عالم آخر! وجدتُ نفسي أبكي بكاءً مريرًا وأتمنى لو امتد زمن السجدة لأبعد من هذا.. الدعوات في السجود كانت مُختلفة تمامًا، كُلها غير المُعتاد، الكُل دعى بدعواتٍ جرت على ألسنتهم -ربما- لأول مرة، دعواتٍ لم تُتوقع لأشخاصٍ غيرُ مُتوقعين.. كأن الجميع أنا!، كأن الجميع يعلم ما أعلم، ويشعر بما أشعر.. الجميع بعد السجدةِ الأولى ينتظرون التكبيرة بلهفة، نعم لقد سجدوا ولكنهم لم يُفرِغوا كُل ما بجعبتِهم. سقطوا جميعًا إلى الأرض مُسرعين كأنهم في سِباق، الأرضُ تستقبل الأُمنيات، والدعوات تنهال عليها.. علت أصوات الدموع، الكُل يُهمهم بكلمات غير مفهُومه، قام الإمام من السجود ولكِنّ قيامهم بدا ثقيلًا، تمنّوا لو يصرُخون لم نشبع من الاقتراب بعد.. قاموا أخيرًا وهُم يُرددون: اللهم استجب.. اللهُم حقِقْ..

تكرر هذا المشهد في الركعة الثانية كما لو كان إعادة لنفس الشيء الذي حدث مع الركعة الأولى.. جلسنا حيث التشهد الأخير، التشهد يخرج من العمق ليس من الشفتين فقط.. ثمة شيء آخر يجعلني أتمسك بكل حرف يخرج وأنا أقول له: لا تخرج إلا وأنت في أبهى صورك، لا تخطو من بوابة الشفاه إلا وأنت متزين، متطيب تليق بما أنت ذاهب إليه وله.. هل تعرف معنى أن تجالس حبيبًا وترى الوقت قد داهمك وما يزال لديك الكثير من البوح، تريد أن تبقى أكثر وأكثر، تريد أن تظهر له المزيد من الحب والانكسار والخضوع، تريد أن تبقى بين يديه لأنك لا ترى نفسك خارج هذا!.. هل تعرف معنى أن تنتهي من شيء تتمنى أن تعود إليه في أقرب وقت بأسرع ما يمكن، وبكل ما أوتيت من قوة، لتبوح له مرة أخرى بما حدث في الفترة من آخر لقاء!..

هذا الحب الذي يرتقي بك وترتقي به، يجعلك شامخًا بعد انكسار، عزيزًا بعد ذل، إنه حب الله، حب أن تكون عبدًا له، يفرح عند لقائك فيجعلك تفرح ولا تتمنى الذهاب، فيمتد هذا الفرح من بعد آخر لقاء إلى اللقاء التالي.. كأنه الحب الذي ينمو بداخل في كل مرة، يهتف فيك أنه لا منجى ولا ملجأ غير هذا، لا تغبْ طويلًا، لا تتأخر، فهناك موعد ولقاء وبوح كثير، إفراغ يُشعرك بالسعادة التي لا تنفذ والراحة التي تمتد طويلًا.. ذلك الحب الذي يصرخ بداخلك قائلًا: "وَاْسْجُدْ وَاْقْتَرِب."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.